In In Arabic - بالعربي

أميرة المصري (*) ـ خاص ـ

ناقش الجزء الأول من المقال الحوادث المتكررة حول اختفاء الفتيات المسيحيات، وعدم وجود معلومات تتسم بالشفافية حول الوقائع، ليتبعه هذا الجزء للتعمق في سؤال “الشفافية”، وكيف يتعامل الأمن مع هذا الملف، باعتباره الجهة الأولى التي تلجأ إليها الأسر عند تغيب أو اختفاء فتاة.

مع اختفاء فتاة مسيحية، تتجه الأسرة لتحرير محضر بقسم الشرطة حول اختفائها، ووفقا لمحامين ومصادر عدة، عندما يتحرك الأمن للوصول لفتاة، يسألها إن كانت تركت المنزل برغبتها أم لا، وإن جاءت الإجابة بـ «نعم» يعود للأسرة ويطلب منها عدم التعرض للفتاة، أم إذا أكدت أنها أجبرت على الاختفاء يعيدها بالفعل (في معظم الحالات) للأسرة بعد التحقيق معها، ولكنه يطلب منها ومنهم أيضا عدم الحديث حول الأمر، بالرغم أن ما تم يعد “جريمة”، ولكنه يفضل ـ أو يرى ـ أن عدم الحديث عنها هو الأفضل.

هنا نصبح أمام جريمتين، الأولى تعرضت لها الفتاة، سواء عن طريق الإجبار أو الابتزاز، والثانية هي إجبار الأسرة على عدم التحدث. وبالفعل تنصاع الأسرة لهذا الأمر، خوفا من التعرض لملاحقات أو مضايقات أمنية، ويصل الأمر لمن لا تربطهم بها أي علاقة، كما حدث العام الماضي مع أحد المحامين، حين دوّن عددا من المنشورات حول خطف الفتيات المسيحيات، على مجموعة خاصة به، ليستدعيه الأمن ويتهمه «بنشر معلومات كاذبة حول تقاعس الجهات الأمنية في عودة القبطيات لذويهم، والتي من شأنها تزعزع الاستقرار الداخلي وتأجيج الفتنة.»

بالعودة للسؤال مجددا، لماذا لا يرغب الأمن في الإعلان عن تلك الوقائع، والكشف عن المحرضين على ارتكابها، لتأتي الإجابة: لأنه “لا يرغب”، وهي إجابة يفسرها نمط التعامل مع هذا الملف، الذي يعتبره الأمن بأنه ملف أمني فقط، وليس ملفا يتعلق بالمواطنة، ليتحول الأمر لما يشبه معركة بين طرفين، وفي المنتصف يقف الأمن في رغبة منه لترك المعركة مستمرة، مع رسائل غير مباشرة بأنه الوحيد القادر على احتواء الموقف وحماية الطرف الأضعف، وأن البديل هو الأسوأ. وهنا يتمكن أيضا من مغازلة تيارات أخرى كالتيار السلفي.

من المفترض أن يكون الأمن هو الجهة المحايدة، ولذا يلجأ إليه الأسر، ولكن في أحيان كثيرة لا يتمتع بهذا الحياد، وفقا لروايات لم تنشر بشكل مباشر، ولكن استمع إليها من محامين وأسر وحقوقيين. ففي حالات عدة عندما تختفي فتاة قاصر ويتم العثور عليها، لا يعيدها الأمن مباشرة للأسرة، ولكنه ينتظر أيام أو أشهر حتى تصل للسن القانوني، ليخرج حينها ويعلن للأسرة، أنه تم العثور عليها، ولكنها الآن في سن قانوني يمنحها حق تغيير الديانة، وأنه لم يتمكن من إعادتها. وفي حالات أخرى يحاول السيطرة على الفتاة وتوجيهها لاعتناق الإسلام، لاقتناع كثير من ضباطه بأن كل من لا يعتنق الديانة الإسلامية ليس على صواب، ليتحول بذلك جهاز الأمن من جهة محايدة في الأصل لجهة مؤثرة، ويباشر ما يمكن تسميته بالدعوة أو التبشير، ولكن بشكل غير مباشر.

حق تغيير الديانة من وجه نظر أجهزة الأمن، يسير في اتجاه واحد، وهو التغيير من المسيحية للإسلام، فبرغم أن الدستور المصري ينص على أن حرية العقيدة مطلقة، إلا أن الأمن يرى تلك الحرية ويطبقها مع أتباع الدين الإسلامي فقط. فعند تحول شخص من الإسلام للمسيحية يصبح الأمر مستحيلا، بداية من النبذ المجتمعي ووصولا إلى عدم إمكانية استخراج بطاقة رقم قومي بديانته الجديدة. ويسري الأمر على كافة المعاملات المدنية في المصالح الحكومية. لكن عندما يغير شخص ديانته من المسيحية للإسلام، تكون الأمر في غاية السهولة، ويتحول الرفض الرسمي والنبذ المجتمعي لترحيب، ويتم تغيير الديانة في بطاقة الرقم القومي في ساعات معدودة أيضا. إجراءات التحول من المسيحية للإسلام سهلة وميسرة، ومستحيلة لمن يرغب بالعكس.

العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته الثامنة عشر، ينص على أن حرية الفكر والوجدان والدين مكفولة، ويضمن حرية أن يدين الإنسان بدين أو معتقد ما، أو لا يدين، وحريته في إظهاره بالتعبد وممارسة الشعائر الدينية، والقدرة على تغيير هذه الدين أو المعتقد، لتؤكد هذه المادة أنه ليس لأحد الحق في إكراه آخر على اعتناق عقيدة أو البقاء عليها أو تغييرها. ومصطلح الإكراه هنا يضم معان أخرى منها، إقناع شخص رغما عنه، أو التهديد باستخدام العنف الجسدي أو النفسي. وبرغم توقيع مصر على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إلا أن الواقع يعكس نقيض النصوص، وهو الواقع الذي يشرف عليه الأمن المصري

في 2009 أعلن ماهر الجوهري رغبته في التحول عن الإسلام وحصل على خطاب من كاهن يفيد باعتناقه المسيحية، لكن وزارة الداخلية رفضت تغيير ديانته، مما دفعه للطعن على القرار واتجه للمحكمة الإدارية العليا، التي حولت الطعن للمحكمة الدستورية، لينتهي به الأمر بالرفض، برغم تقديمه شهادة من الكنيسة تفيد بتغيير ديانته واسمه أيضا. وفي 2007، رفضت محكمة القضاء الإداري دعوى 45 من المسيحيين الذين دخلوا الإسلام ثم عادوا للمسيحية، مطالبين فيها بإلزام وزارة الداخلية بتغيير خانة الديانة في البطاقات [1] [2] الشخصية وشهادات الميلاد، وهو ما أثار غضبا قبطيا كبيرا، خاصة وأن إجراءات التحول من المسيحية للإسلام لا تشهد هذا التعثر والتعنت. واستمر الأمر حتى 2008 حتى ألزمت المحكمة الإدارية العليا وزارة الداخلية بتغيير الأوراق الرسمية للمسيحيين العائدين لديانتهم الأصلية.

ما يمارسه الأمن، يمكن تسميته بالدعوى والتبشير غير المباشر للدين الإسلامي، بالرغم أن نفس الجهاز يحارب من يقوم بمحاولة نشر الدين المسيحي، ويوجه تهم ازدراء الأديان لمن يحاول السير على نفس النهج. وهناك العشرات من المتهمين بقضايا ازدراء الدين الإسلامي. وهنا يتعقد الأمر كثيرا فالأمن وهو المفترض أن يكون الجهة المحايدة المسؤولة عن كشف الحقيقة والمعلومات، يصبح جهة مؤثرة في القرار لصالح طرف واحد، وهو ما يؤكد عدم رغبة الأمن في حل الأزمة، والاستمرار في الإبقاء على الوضع الحالي.

بالعودة للسؤال الأكبر حول اختفاء الفتيات ومدى شفافية الأمن في نقل المعلومات، كمحاولة للحل، الذي يمارسه من وجه نظره من خلال جلسات يجريها مع الفتيات المختفيات وسؤالهن عن رغبتهن في العودة أم لا، نصبح أمام تساؤل جديد، هل تختلف تلك الجلسات عن جلسات النصح والإرشاد التي توقفت منذ فترة؟ يرى البعض أنها الحل سواء اختلفنا أم اتفقنا معها، ولكن السؤال الآن يوجه للأمن نفسه، لماذا لا تعود تلك الجلسات التي تتم في مقر أمني وبحضور كاهن مسيحي وشخص من الأسرة، للتأكد من حرية الإرادة، وعدم الخضوع للابتزاز أو الاستغلال، لماذا يصر الأمن على القيام بهذا الدور بمفرده؟

وسؤال آخر للدولة: إذا لم تكن هناك رغبة في عودة تلك الجلسات، لماذا لا تقوم جهة محايدة بالتأكد من جدية الرغبة في التحول وأن الشخص لا يقع تحت تأثير يحد من حرية إرادته؟

من حق الأسرة التي تشهد حالات اختفاء فتيات أن تطمئن عليهن، وأن غيابهن ليس تحت ضغط أو ابتزاز، وهنا يصبح توضيح المعلومات ضرورة وليس رفاهية، لحماية الفتيات والأسر، وأيضا ليكون بمثابة خطوات رادعة للمخالفين. وإن كان الأمن لا يقوم بتلك المهمة، فيمكن هنا تدخل جهات أخرى على رأسها المجلس القومي للمرأة، والمعني بحقوق النساء، فهؤلاء نساء وفتيات منهن من تحتاج للحماية، والتأكد أن أخريات لم يتعرضن لمكروه أو سوء، أو جرائم على رأسها الزواج المبكر إن كانت المختفية قاصر، فالحل دائما يكون في ضمان حرية الاعتقاد للجميع وليس لطرف واحد فقط.

صحفية وباحثة (*)

Recent Posts

Leave a Comment