د. محمد أبو الغار ـ المصري اليوم ـ
رحلت صوفي حبيب جورجي عن عمر ١٠٢ عام بعد أن أعطت الفن المصري والوطن الكثير. فقد قامت برعاية مركز الحرانية للفنون والنسيج خمسين عامًا بعد وفاة زوجها رمسيس ويصا واصف، وقامت بتعليم أعداد كبيرة من بنات وأولاد قرية الحرانية على النسيج وكيفية إطلاق المواهب الفطرية على أنوال يدوية وباستعمال أصباغ نباتية طبيعية تزرع في الحرانية وتستخرج الألوان بطريقة قدماء المصريين. واشتركت في معارض عالمية وتم اقتناء أعمال بنات وأولاد الحرانية في متاحف عالمية ومازال العمل مستمرًا في هذا الصرح العظيم. صوفي بنت الفنان الكبير حبيب جورجي (١٨٩٢– ١٩٦٥) الذى تخرج في كلية المعلمين في قسم الرياضة وعمل مدرسًا لها حتى أعلن الناظر عن افتتاح قسم للرسم بالمدرسة وتقدم للعمل به وأبدع، فذهب إلى إنجلترا في بعثة لدراسة الفن وعاد عام ١٩١٩ وساهم في تأسيس مدرسة فنية، فهو أب للمدرسة التأثيرية وكذلك الرسم بالألوان المائية وله متحف لأعماله في الحرانية.
زوج الراحلة صوفي حبيب جورجي هو رمسيس ويصا واصف (١٩١١– ١٩٧٤) وهو نجل المناضل المصري العظيم ويصا واصف بتاريخه الحافل وأحد أبطال ثورة ١٩١٩ العظام. كان رمسيس مهندسًا معماريًا عبقريًا، وكان أستاذًا ورئيس قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وكان له أربع أخوات بنات هن إيزيس وسيروس وأوريس وأوزوريس. قام رمسيس بتصميم والإشراف على بناء أعمال عظيمة في القاهرة وخارجها. قام بتصميم عدد كبير من الكنائس وكلها لها طابع خاص واستلهم في تصميمها أشكال الأديرة الأثرية. قام ببناء كنيسة المرعشلي الشهيرة في الزمالك والتي حضرت فيها صلاة الجنازة على السيدة صوفي، وكان القداس والكلام الذى قاله القسيس عن أعمال صوفي ومساهمتها في تعليم الفنون لمئات البنات في قرية الحرانية، ورفع اسم مصر عاليًا في المحافل الدولية، وتحدث عن لوحتين كبيرتين تمثل كل منهما نخلة وهما منسوجتان بألوان تناسب الأجواء الكنسية، أهدتهما السيدة صوفي لكنيسة المرعشلى. وصمم رمسيس عددًا آخر من الكنائس منها كنيسة المشيخية عام ١٩٤٠ ومطرانية الجيزة بشارع مراد، وقام بتصميم عدد كبير من مباني القاهرة الخديوية الرائعة ومتحف محمود مختار الجميل بالجزيرة. وشارك في تصميم مبنى مدرسة الليسيه الفرنسية الضخم في باب اللوق بالاشتراك مع مكتب فرنسي. وقام ببناء مدرسة في مصر القديمة وأقنع الناظر بتدريس النسيج اليدوي في حصة الهوايات وفعلًا نجح في ذلك ونبغ ثلاث من التلميذات افتتح بهن مركز الحرانية للنسيج عام ١٩٥٥.
كان رمسيس ويصا واصف قد اشترى الأرض عام ١٩٥٢ لإقامة مركز لعمل السجاد اليدوي باستخدام الفن التلقائي وفى نفس الوقت قام بزراعة نباتات خاصة استخدمها لاحقًا في إنتاج الألوان التي يتم بها صناعة خيوط النسيج، وكذلك أحضر نبات النيلة الشيطاني على شط النيل لإنتاج اللون الأزرق الداكن. وبنى ثلاثة بيوت في الحرانية كلها بطريقة مشابهة لتكنيك حسن فتحي تحافظ على الحرارة فى الشتاء وتمنع الحرارة في الصيف، والبيوت له ولأخته ولصديقه منير نصحى الذي تزوج ابنه إكرام من بنت رمسيس ويصا واصف، وأعطى قطعة أرض خارج سور البيت تم فيها بناء بيوت للشباب حديثي الزواج الذين يعملون معه. وبنى صالات للورش للمعدات اللازمة لصيانة الأنوال الخشبية اليدوية.
وحرص رمسيس على تدريب الأطفال وأدى ذلك إلى ظهور المواهب ومن يظهر موهبته ينضم إلى فريق عمل السجاجيد اليدوية بعد فترات طويلة من التدريب. ونجح رمسيس في عمل مشروع ضخم يجمع بين الصناعة والفن على مستوى العالم وأصبح مركز الحرانية مكانًا للزيارة من الوفود السياحية واسمًا هامًا للفنون المبتكرة يوجد في جميع المعارض العالمية، وللأسف رحل رمسيس عن عمر مبكر ولكنه ترك زوجة فنانة استمرت تحافظ على المكان وتدعمه إلى الأمام.
الرمز الكبير للعائلة هو الوطني العظيم ويصا واصف (١٨٧٣– ١٩٣١). ولد في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج وانتقلت العائلة إلى القاهرة حيث حصل على البكالوريا من مدرسة تابعة لإرسالية فرنسية وسافر إلى فرنسا. درس في الجامعة وحصل على إجازة التدريس الفرنسية وعاد إلى القاهرة ليعمل مدرسًا للعلوم في مدرسة رأس التين الثانوية في الإسكندرية عام ١٨٩٤ وشاهد السيطرة البريطانية على كل المدارس المصرية. وبعد أن ضايقه أحد المفتشين قرر أن يدخل كلية الحقوق الفرنسية في مصر وتخرج عام ١٩٠٢ ليكون أول مصري محام في المحاكم المختلطة، وفى عام ١٩٠٤ فتح مكتبًا للمحاماة وانضم للحزب الوطني وكان أول قبطي يلتحق بالحزب وتبعه صديقه مرقس حنا. ولم يعجب الأقباط التحاقهما بالحزب الوطني المرتبط بالدولة العثمانية. وعلى إثر ذلك نشرت عدة مقالات في صحيفة الحزب الوطني بقلم الشيخ عبد العزيز جاويش يهاجم فيها الأقباط. استقال ويصا واصف عام ١٩٠٨ وانضم إلى الوفد عام ١٩١٨ وتم اختياره كمحام للدفاع عن سعد زغلول لبراعته في الدفاع والحديث وتم نفيه مع سعد زغلول في جزيرة سيشيل ١٩٢١– ١٩٢٣. وبعد اشتراكه في مظاهرات ضد الإنجليز قبض عليه وحكمت عليه محكمة عسكرية بالإعدام وخمسة آلاف جنيه غرامة وخفف الحكم إلى سبع سنوات و١٥٠٠ جنيه غرامة. وخرج من السجن بعد ٧ أشهر بعد الموافقة على الدستور ونجاح الوفد في الانتخابات، ورفض الملك فؤاد تعيينه وزيرًا للتعليم عندما رشحه سعد زغلول لأنه مسيحي ولا يمكن أن يرأس هيئة إسلامية كجامعة الأزهر (وذلك قبل استقلال الأزهر) وانتخب رئيسًا لمجلس النواب بعد وفاة سعد زغلول.
فى أغسطس عام ١٩٢٨ سافر لحضور مؤتمر البرلمان الدولي بالرغم من محاولة إعاقة سفره بواسطة الحكومة والإنجليز. وأعيد انتخابه رئيسًا للبرلمان عام ١٩٣٠، وحدث انقلاب الملك فؤاد مع إسماعيل صدقي وأغلق البرلمان بالسلاسل وحددت إقامته في بيته، ولكنه استطاع الخروج والوصول إلى البرلمان، ووجد تظاهرة من النواب وقام بفك السلاسل ودخل واجتمع البرلمان. وأعلن الملك فؤاد حل البرلمان وسافر ليمثل الوفد في اجتماع حقوق الإنسان في يوليو ١٩٣٠. وتوفى في ٢٧ مايو ١٩٣١ وشيع جنازته آلاف المصريين.
يتحدثون عن الجينات الوراثية، هذا المكان الرائع الذي أنشأه رمسيس ويصا واصف وقامت صوفي حبيب جورجي برعايته لنصف قرن، والذي يجتمع فيه الكفاح بالعلم والفن، هو نتيجة لجينات موروثة عن الجد الفنان حبيب جورجي والجد السياسي الوطني العظيم، ويصا واصف.
________________