In In Arabic - بالعربي

سهير حلمي ـ الأهرام ـ

يعقوب الشاروني، الأديب العظيم، رائد أدب الأطفال في مصر والعالم العربي.. علامة فارقة في الريادة، والتنوع، والغزارة، والتشويق. صاحب أكمل مشروع إبداعي في مجال أدب الطفل على مدى عقود. فقد مس بقلمه الرشيق المتدفق كل ما يتعلق بهذا الأدب الرفيع في حياة الأمم «أدب رجل الغد». فكان يمسك بتلابيب السرد بمهارة واقتدار وحصيلة لغوية سلسة ونادرة، تجذبك من أول كلمة. فهو يعلم مراوغة «الحكي»، متسلحا بحصيلة نفيسة من المخزون الشعبي، والثقافة المتنوعة وروح رجل «القانون»، الذي درسه، ثم تركه حبا في الأدب.

كان حريصا على استخدام تقنيات متنوعة من السرد وطرح الأسئلة والفروض والحيثيات في قصصه القصيرة والعجيبة للصغار. ويرى أن الأسلوب القصصي هو أفضل الأساليب التربوية للصغار، قد يبدأ من ومضة خاطفة، أو من قصة واقعية يشحذها بالخيال من التراث، الذي كان يرى أن الغرب أفاد منه إيمانا منهم أن الخيال هو الشرارة الأولى للبحث العلمي وكل المخترعات.. في البدء تأتى الكلمة والقصة ثم الاختراع.

قلمه مفعم بالحيوية والتشويق وملامسة انفعالات الصغار والكبار، الذين يقرأون أدبه لكي يقصوه على الصغار على حد تعبير د. سهير القلماوي. قصصه ملهمه للكبار تخاطب الفطرة النقية لطفل داخل كل إنسان.

ينتمي لأسرة فنية شديدة التميز، أنجبت ثلاثة من أصحاب المواهب النادرة في مجال الأدب والنقد: يوسف، وصبحى، وثالثهما يعقوب. امتاز الأديب الكبير ببراعته في مجال السرد الاجتماعي، بصفة خاصة، فكان مراقبا بخبرته العميقة لكل المتغيرات التي طالت أطفال عصره.

اتسم بالبعد الإنساني والاهتمام بالفئات المهمشة. وكتب عن ظاهرة العشوائيات بصورة مخالفة، حيث كان ضيفا دائما -على حد تعبيره- في تلك التجمعات، التي تحتاج للدعم إنسانيا واجتماعيا ثقافيا للارتقاء بها. وكان يلوم السينما على تناولها المفرط لسلبيات العشوائيات فقط. وأنه كان يجلس في تلك المناطق على «صناديق خشب» بين الجمهور، ولكن هذه التجمعات، كانت تزخر أيضا بأصحاب المواهب التي تحتاج إلى التعهد بالرعاية. والحمد لله أن أمد الله في عمره، لكى يشهد النقلة الحضارية التي شهدتها العشوائيات، الزاخرة بالمواهب كما يراها دوما.

تجليات تجربته الخاصة انعكست على دراساته الأدبية، التي أثرى بها المكتبة العربية في مجال ثقافة الطفل. فكتب عن تنمية عادة القراءة عند الأطفال، وآلية الحكي لهم، وكيفية تنمية عقل الطفل ومهارات الكتابة لهم.

ولم يترك سينما ومسرح الصغار، دون أن يدعمهما بالعديد من الدراسات. إضافة لإسهاماته في مجال الترجمة لدور نشر عالمية لعشرات الكتب، وأعماله التي ترجمت إلى خمس لغات، حظى كتابه «أجمل الحكايات الشعبية» بإشادات دولية، وعلى «جائزة معرض بولونيا»، كأفضل كتاب أطفال في العالم.

تعددت الجوائز والمناصب والمسئوليات والإنتاج الغزير بدأب وسعى، كأنه فى بداية الرحلة حتى آخر أيامه. لكنه ظل وفيا لشغفه بتجليات القص، ودهشته التي لا تنتهي في «ألف ليلة وليلة» وثراء قالبها الذى لا ينضب. ففي كل حكاية، يحتفظ بسره وحبكته، ولا يلجأ للوصف المباشر، ولكن للإيحاء بالمعنى، كي ينشط ملكة التفسير لدى الصغار.

ويعد الشاروني من أبرز رواد أدب الأطفال، الذين ساهموا في تدعيم الهوية المصرية، مؤكدا أهمية المحافظة على التقاليد الريفية المتوارثة مثل تقليد «زغرودة الأم»، في مجال الاحتفاء بتفوق الأبناء، وليس في مناسبات الأفراح فقط. فـ (الزغرودة)، كما قال: «هي بهجة محلية ينبغي صيانتها».

قدم الشارونى بابا خاصا يوميا في مجال الأطفال بـ «الأهرام» منذ عام 1981، وحتى 2011 بعنوان «ألف حكاية وحكاية». فعلى مدى ثلاثين عاما، كان زادا معرفيا متنوعا للأطفال، متوائما مع رصانة «الأهرام»، وعراقته، وحرصه، على إثراء معارف قرائه بكل جديد. فكانت موسوعة بمثابة «ديوان حياة الأطفال في مصر» ولاحقا، اختص «الأهرام» بمقال اسبوعى في «ملحق الجمعة» عام 2013، حين توليت الإشراف عليه، وكان عنوانه «فى الشأن السياسي»»

وكانت تجربة فريدة بالنسبة له، حيث استطاع ببراعة فائقة أن يستلهم أحب القوالب لديه – «كليلة ودمنة» – والتي كان يرى أنها لا تقل براعة ودهاء عن «الأمير» لـ ميكيافيللي. ولأنه كان مغرما بالمفارقات في موازين القوة والإرادة، فيستدعى مثلا ما يوحى بضخامة الفيل الصماء، مقابل خفة الفراشة وبراعتها في الارتحال والحركة وقتما تشاء، فكان يغمز ويلمز الشخصيات التي بدلت ريشها بعد يناير 2011 بحثا عن مصالحها في تلك الفترة.

وتبقى مأثرة الشارونى الكبرى الممثلة في إيمانه العميق بأهمية تواصل الأجيال وحرصه على القيام بدور «الأستاذية»، التي استحقها عن جدارة شأن الجوائز المحلية والعالمية، التي حصدها، فهو من أكثر الأدباء الذين تكفلوا برعاية أصحاب المواهب وتعهدهم بالاهتمام والمتابعة والدعم الاجتماعي. فكان منزله في «الروضة»، منارة ثقافية للجميع من كافة أقاليم البلاد.

سألته يوما كيف يمكن أن نحث الطفل على القراءة بينما الكبار مستغرقون بالساعات في الألعاب الإلكترونية، فأجاب: «إن فضاء القراءة والحكي، البقاء فيه للأصلح والأبقى أثرا، وليست العبرة بالوسيل»».

راهن الشارونى على إطالة أمد حب الاستطلاع والفضول لدى الصغار، بالحكايات، وتجديد عبارة «ماذا بعد؟» بين الأجيال المتعاقبة. فهي الدافع الأكبر للعمل بدأب، وشغف، وتعظيم، الإيجابيات في أعين الصغار لكى يتحصنوا ضد الانهزامية واليأس. هذه كانت رؤيته، لكى يظل المجتمع شابا فتيا محصنا ضد الفرقة والانقسامات، الوحدة والعمل والصبر..

https://gate.ahram.org.eg/daily/News/204686/1179/922716/الصفحة-الثانية/صاحب-«أجمل-الحكايات-الشعبية».aspx#

Recent Posts

Leave a Comment