In In Arabic - بالعربي

سامي حرك ـ

الصلاة ملمح أساسي من شخصية المصري، القديم والحالي

من الكلمات التي عبر بها المصري القديم عن طقس الصلاة، جاءت كلمة “تل” من الجذر “تر”، ومنها التلاوة، فالصلاة تلاوة أدعية وابتهالات، كما عبر عنها بكلمة “بركا” وبها يدخل المصري لصلاته بقوله “بارك يا رب”، وأيضًا كانت كلمة “معي” أي الدخول لمعية وصحبة الرب، للطلب والمناشدة، كذلك وجدت كلمة “سماع” بما لا يغيب عن مدلول اللفظ من التوجه ليسمع الرب طلباته. وهكذا كل الكلمات المعبرة عن فعل الصلاة تدور حول وظيفة الصلاة نفسها من كونها دعاء أي علاج لمشاكل وأوجاع الإنسان الملتجئ لربه واتصاله به في الصلاة، وذلك ما يعبر عنه صراحة جذر الدعاء “دوا” بنفس ما يعنيه المصري الحديث من لفظة “دوا” أي “دواء” لما في النفوس. أما كلمة “صلاة” التي نستعملها في كلامنا وحديثنا الحالي فهي مشتقة أو تم تصريفها من الجذر المصري القديم المكتوب بالحروف الهيروجليفية “سرت”، والتصريف هنا بإقلاب الراء إلى لام، حيث يظهر أن الكلمة ما هي إلا “صلت/ صلة”. وهكذا يتضح الأصل المصري للكلمة الحالية في لغة المصريين الحديثة وكذلك في اللغة العربية، ومعناها الأصلي يدور بين معاني الإبلاغ، والبيان، والتوضيح، والمناشدة!

فالصلاة بقصد الإبلاغ عن شيء أو بيان وتوضيح الحاجة، ثم هي المناشدة والطلب لما يريده المصلي ممن يتقدم إليه بصلاته هذه، وفي كل الأحوال، ومهما تبدلت الأسماء، فإن الصلاة جميعها يكون من وظائفها التوجه بالبيان والتوضيح والإبلاغ والمناشدة الى الإله الواحد القوي كلي القدرة السميع العليم!

ولما كانت هذه هي المعاني التي تلخص وظيفة الصلاة ودورها في حياة الإنسان المصري القديم، فإنه بالتالي يستطيع أن يقوم بها من أجل نفسه، كما يستطيع أن يقوم بها من أجل أحبائه وأقاربه، من أجل مجتمعه ووطنه، ومن هنا فإن ما بقي من صلوات قدماء المصريين في دعوات الأمهات ربما يكون هو أصدق تصوير لما كانت عليه، وما كان يقال خلال تلك الصلوات التي استمرت آلاف السنين خلال أيام عز الأديان المصرية مع ازدهار وقوة حضارتها ثم ما لبثت تلك الطقوس أن تشكلت وتلونت في هيئات جديدة مع الأديان الوافدة ببشارة ودعوة الغزاة المحتلين، بينما ظلت تلك الطقوس صامدة في بيوت المصريين بين ثنيات قلوب الجدات والأمهات المصريات، يرددنها بيانًا وتوضيحًا وإبلاغًا ومناشدة، بصلاح بيوتهم وهدوء بالهم، وصحة محبيهم، وعدَل بناتهم!

وعلى سبيل تقريب الصورة، أورد هنا بعضًا من تلك الدعوات ـ والأدق أن نسميها صلوات:

ربنا يرضى عليك

ربنا يسترها معاك

ربنا يحنن عليك قلوب خلقه

ربنا يفتحها فـ وشك ويوسع رزقك

ربنا يسهلها لك

ربنا يعدل لك الحال

أشوفك فـ بيت العدل يا قلبي

يجعلها من بختك

يجعله من بختك

يجعلك مبخت

يكفيك شر المستخبي

يكتب اسمك على حجر، لا يعت ولا يدوب

يطعمك ما يحرمك

يهديك ويطرح البركة فيك

وهكذا مثل هذه الدعوات وغيرها الكثير، استمرت الأمهات حاملات الجينات الثقافية، ممارسات لطقس من أهم طقوس عقيدة المصريين، وهو طقس الصلاة بالدعوات والتحيات والتمنيات!

أما عن مدة الصلاة: فالصلاة ليست لها مدة معينة، فهي تبدأ وتنتهي بإرادة المصلي، أي بمجرد أن ينتهي من دعواته!

وأما أوقات الصلاة، فهي أساسية واختيارية:

هناك ثلاثة أوقات أساسية، استمر الفلاح المصري في الالتزام بمواعيدها حتى يومنا الحالي، لأنها تنظم حياته العملية، وهي شديدة الوضوح بحيث لا يمكن نكرانها أو الالتباس والغموض بشأن حدوثها:

ـ الوقت الأول: مع شروق الشمس، وقد عبر عنه المصري القديم بكلمة “نبهو”، ومنها التنبيه والانتباه، وكأن أول شعاع تصدره الشمس بمثابة جرس ونداء للانتباه ببداية اليوم. وجدير بالذكر أن اليوم في التقويم المصري يبدأ من نفس ذلك الوقت، أي من وقت الشروق، وليس منتصف الليل كما هو النظام الحالي!

ـ الوقت الثاني: مع انتصاف النهار، بتعامد الشمس، أي ما نعرفه الآن بوقت الظهر، أي الظهور والوضوح الكامل، كما هو في مفهوم المصري القديم وكذلك المصري الحالي، بينما عبر المصري القديم عن ذلك الوقت أيضًا بكلمة “شمش”, التي تتصرف طبيعيًا مع كلمة “شمس” وكلمة “سمس” المعروفتين حاليًا.

ـ الوقت الثالث: مع غروب الشمس ونهاية وقت النهار وكذلك انتهاء يوم العمل. لذلك يمتد وقت هذه الصلاة لما قبل النوم، فما كان المصري ليرقد نائمًا قبل أن يتلو صلاته الختامية بالدعوات برجاء تقبل ما فات من عمل وتمنيات بالتوفيق والبركة فيما هو آت، وقد عبر عنه المصري القديم بكلمة “وجا”، بمعنا المرواح، انطفاء نور الشمس. ومعها مغادرة الفلاحين لغيطانهم والذهاب الى بيوتهم، وكذلك إيداع الحيوانات في حظائرها!

أما أوقات الصلاة الاختيارية، فهي كما يقتضي معنى الكلمة من الاختيار، أي حسب الوقت والزمن الذي يختاره الشخص للاتصال (فالصلاة اتصال) بربه القادر المهيمن العظيم، يرجوه ويتأمل منه البركة والخير والصحة والستر وصلاح الأحوال، في أي وقت، وأي مكان، وفي أي هيئة أو صورة تناسب من يصلي، كلما اقتضى الأمر، وكلما جدت واستجدت الأحوال!

والجملة الأخيرة ربما تأخذنا إلى الحديث عن هيئة وحركات الصلاة، أو ماهية الصورة التي يمارس فيها المصلي طقوس دعائه وتقربه إلى إلهه، حيث نجد أن حركات الصلاة وهيئتها، منها ما هو حركات أساسية، والباقي تحية يقدمها المتقرب عن طيب خاطر، وحسن اختيار للهيئة المناسب:

أولاً: الدخول في الصلاة وقوفًا بتحية اسمها “نيني” وهي التحية الأساسية عند المصري على وجه العموم، سواء في دخوله للصلاة أو تحية بين الناس، وذلك برفع اليدين مفرودتين الى مستوى الرأس والكتفين، مع فرد الكفين في مواجهة من يتقدم إليه بالتحية!

ثانيًا: الدخول في الصلاة جلوسًا، بتحية اسمها “واش” برفع اليدين الى مستوى الكتفين، مع هيئة الجلوس بثني احدى القدمين ورفع الأخرى!

ثالثًا: انتهاء الصلاة بتقديم تحية اسمها “غمز” وفيها ينحني المصلي انحناءة خفيفة، تحية واحترام، ولو بمجرد ثني الرقبة قليلاً كما نفعل أحيانًا في حياتنا الحالية مقترنة بربت الكف على الصدر للتعبير عن الشكر والامتنان!

قد يحدث أثناء الصلاة الاندماج والاتصال الروحي أثناء الدعاء والمناشدة والابتهال، فيخر المصلي ساجدًا أو منبطحًا تمامًا، فيما يعرفه المصري القديم بتحية “خر” وهي تحية عارضة لا تحدث عادة كل صلاة، بل هي استثناء نادر الحدوث، حسب المصاب أو الضرر الذي يلتمس المصلي زواله وانتهائه!

أما ما يقال أثناء الصلاة:

الدخول في الصلاة بكلمة “بارك يا رب”، بارك يا رب زرعي، بارك يا رب صحتي، بارك يا رب عملي، بارك يا رب حبيبتي، بارك يا رب أطفالي، بارك يا رب صحة أمي، بارك يا رب في أهلي، بارك يا رب في وطني.. الخ. وإن أراد المصري الحديث مزاولة هذه الصلوات والدعوات الطيبات، فإنه لن يحدث تغييرًا كبيرًا، سوى أن يقول المصري المسلم “بارك يا الله، وباسمك العظيم يا الله”، بينما يمكن للمصري المسيحي أن يبدأها بـ “بارك يا يسوع، بارك يا رب المجد”!

الأدعية والابتهالات والمناشدات أثناء الصلاة هي دعوات حرة، يبدعها كل مصلِ من واقع خبرته وتجاربه، إلا أنه ولابد من وجود مأثورات يرددها المصلون، كما كان يحفظها ويعلمها الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم، وترديد بعضًا من تلك المأثورات، إلى أن يكبر الشاب وتنضج الفتاة، فيكون لهم لمساتهم الخاصة وإبداعاتهم في صياغة ما يرتلون من دعوات في صلواتهم تلك!

عند الخروج من الصلاة لانتهائها، يقول المصلي “أمن”، وهي من الجذر اللغوي المصري القديم “همن” بمعنى تمني الموافقة والتصديق على ما طلبه المصلي أثناء صلاته، وقد تكون كلمة “أمن” من اسم النتر “أمن” أو “آمون” كما هو شائع، إذ أنه كان رمزًا مقدسًا مهمًا لآلاف السنين، ومن أهم صفاته “المجيب، حامي الضعفاء”. وما زال ذلك الختام “أمن” في صلاة مليارات البشر من المؤمنين في كل الديانات “أمن” “أمين” “آمين”!

الصلوات كلها فردية، ولم تمارس من الصلوات الجماعية خارج البرابي، أي في صلوات الشعب، إلا صلاة جماعية في الأفراح، بمناسبة عقد الزواج أو الـ “عقبال” كما عبرت اللغة المصرية القديمة، وكذلك صلاة جماعية للجنازة، قبل الدفن، وتلك الصلوات الجماعية تكون مصحوبة بالموسيقى والمنشدين المحترفين، وفيها يكون القائد المطرب أو المنشد هو من يدعو وهو من يردد التراتيل والابتهالات، ويكون وقوفه وفرقته -ان وجدت- في مواجهة المصلين الذين يلتفون حوله، ويرددون خلفه كلمة الإقرار والتصديق “أمين”!

وأختم هذا المبحث عن صلوات المصريين، بصورة من بردية “آني” يتوجه بها مباشرة الى صورة الشمس “رع”، رافعًا يديه بتحية الـ “نيني”، مرددًا تراتيل وابتهالات تمثل تكملة للفصل “15” من كتاب “برت-ام-هرو” أي طلعة النهار، أو خروج النهار، حيث يناشد الرب:

“عسى أن تحمي روحي في الأرض المقدسة، وعسى أن تصاحبني بركاتك في رحلتي الى حقول اليارو”.

أمن!

https://www.facebook.com/samy.harak.9

Recent Posts

Leave a Comment