In In Arabic - بالعربي

د. خالد منتصر ـ

هل الرصاص الذي أطلق على شهيد التنوير فرج فودة من رشاش الغدر والخسة والجهل هو آخر الرصاص؟ هل صمت الكلاشينكوف عن استهداف المفكرين، أم ما زال هناك رصاص ينطلق ورشاشات تستهدف ومحتسب يتربص؟! هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عنه بعد ٣٠ عاماً مرت على اغتياله.

فرج فودة، هذا المفكر الشجاع الذي قتلناه حياً بيننا بالإهمال واللامبالاة، ثم اغتلناه ثانية بعد رحيله بالتخلي عن أفكاره وسد آذاننا وغلق عقولنا عن نشرها وتقبلها وتبنيها. 

في 8 يونيو 1992 تلقى المفكر فرج فودة الرصاص في قلبه وكبده أمام مكتبه بشارع أسماء فهمي. وبعد اغتيال الجسد تلقى فكر فرج فودة رصاصة الرحمة بسطوة قانون الازدراء. صادف اغتيال التنوير هوى ومزاج المجتمع الذي يخشى التفكير النقدي ويكره المنهج العلمي ويخلط ما بين الدين والتدين، وبين الإلهي والبشري.

لقطات وكادرات عبثية تمر أمامي الآن من شريط حياة فرج فودة قصيرة الزمن، عميقة المعنى. فرج فودة كان «سيزيف»، بطل الإغريق الأسطوري، الذي ظل طول عمره يحاول أن يدفع بالصخرة إلى قمة الجبل، لكنها وهي تقترب من تلك القمة إذا بها تهبط إلى السفح ثانية، فيكرر المحاولة إلى ما لا نهاية. كان فرج فودة كالمساق إلى قدره الحتمي. كان يواجه الموت كل يوم بالتهديد والوعيد وخناجر السباب الفاحش ورصاص التطاول البذيء. كان يواجهه بصدر عارٍ، بلا درع أو سيف.

كان أكبر مثال حي على العلاقة الملتبسة بين دولة لا تعي الدرس، ومثقف يظن أن رسالته قد وصلت، وأن درسه قد فُهم. الدولة التي كانت تحارب الإرهابيين وقت فرج فودة ضحّت بمن يحارب الإرهاب. قالت له خُض معركتك منفرداً، اذهب أنت وكتبك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، متفرجون، منتظرون، مبسوطون، منشكحون!

انضم «فودة» إلى حزب الوفد، ثم خرج عنه عندما تحالف هذا الحزب، صاحب التاريخ العلماني، مع الإخوان في انتخابات البرلمان. رشّح فرج فودة نفسه مستقلاً في دائرة شبرا، محروماً من أي دعم، ورغم ذلك كان مكتسحاً بحجته القوية وصلابته في مواجهة الفاشية الدينية، لكن الدولة باعته وضحّت به على مذبح الفاشية الدينية وتحالفت مع المرشح المنافس، لأنه راجل بتاع ربنا، و«فودة» عليه كلام وعلامات استفهام! وتمّت الصفقة وسقط فرج فودة العلماني في الانتخابات، كما سقط من قبله لطفي السيد الديمقراطي!

ظل «فودة» يطل على الناس من خلال مقالاته وكتبه وندواته كلما تيسّر وسط حصار إعلامي مريب، بينما يطل تيار التخلف من خلال شاشات التليفزيون في أوقات الذروة بشكل مكثف وإلحاح مقصود. لم يدخل فرج فودة طوال حياته باب ماسبيرو إلا من خلال ربع ساعة مع المذيع أحمد سمير، تعليقاً على حادث إرهابي كانت الدولة تحتاج إليه وقتها لاستخدامه في تلميع الصورة وإجراء عملية تجميل للضمير المترهّل، لكن دائماً كان اسمه مدرجاً على قائمة الممنوعات السوداء!

إنه حصار في الحياة والممات يا فودة.

https://www.khaledmontaser.com/article.php?id=3391&fbclid=IwAR1l—FKUUrm2zlH5h0hfFX_hJxNZqQTJWX-ttnhc-CrDNTcJxOed9wwdU#.YqM-pexBzZ9
Recent Posts

Leave a Comment