كارولين كامل ـ مدى مصر ـ
مستقبل الأبناء معلق بين كنيسة أغلقت بابها ودولة تأتي متأخرة ـ
«آه يا بلد.. بعد 55 سنة في العريش أخرج منها هربان بهدومي وعكازي». على تسعة وثمانين عامًا يستند سيفين مرقص. يردد كلماته المليئة بالحسرة الممتزجة بعدم التصديق، بينما يميل على كل من يقابله ملتمسًا كلمات تطمئنه وتبشره، أو تواسيه. «مش مصدق.. مش مصدق» ينطق بها لسانه وعيناه الزائغتان، قبل أن يلتقط أنفاسه ويطلب كوب ماء، يذوقه باحثًا عن طعم مختلف عن ذاك الماء الذي كان يحتسيه قبل ساعات في بيته في العريش.
سيفين مرقص الذي يغترب في عامه التسعين، إثر النزوح الذي أُكره عليه المسيحيين في العريش بعد حوادث قتل تستهدفهم، هو عميد عائلة سيفين أقدم العائلات المسيحية في شمال سيناء.
يعلو صوت الغربان في مدينة الإسماعيلية واضحًا في الساعات الأولى من الصباح، بينما يركض عشرات الأطفال للعب واللحاق بها، وهي تختطف فتات أطعمة تناثرت على عشب بيت الشباب المطل على قناة السويس، حيث تقيم عشرات الأسر المسيحية، التي فرت نجاة بحيواتها من الاستهداف المستمر في العريش.
توزعت الأسر المسيحية القادمة إلى الإسماعيلية بين بيت الشباب ودير الأنبا أنطونيوس، ومنازل فتحها مواطنون من الإسماعيلية لاستضافتهم.
سيفين مرقص عميد عائلة سيفين النازحة – أقدم العائلات القبطية في العريش- تصوير صموئيل محسن
«12 سنة عشتهم في العريش وقت احتلال الإسرائيليين، معملوش فينا أي حاجة. ودلوقتي اللى بيحصل فينا والحكومة ساكتة ومش عارفة تحمينا! اتنين يقتلوهم مرة واحدة ازاي؟… أنا عشت عمري وشفت كتير وحاربت عشان مصر، لكن اللى شفته في أواخر عمري ده كفر وظلم. أنا مقدرش اعيش في أي مكان غير العريش، دي أرضي»، يلقي سيفين بكلماته وهو يتطلع لبيت الشباب مقارنًا بينه وبين الدار الكبيرة التي تركها في العريش، والتي كانت تجمع أبناءه وأحفاده.
سبعون أسرة مسيحية – حتى لحظة نشر هذه السطور- اضطرت للنزوح من العريش إلى الإسماعيلية في يومين، وفق ما أعلنه القمص سوريال عزيز راعي كنيسة الملاك بالإسماعلية، وأمين مساعد بيت العائلة. ويتوقع القمص زيادة الأعداد في الأيام القادمة.
تصل الأسر للإسماعيلية في سيارات خاصة أو أتوبيسات، تحمل عشرات الأفراد معًا، يتحركون سويًا خشية التربص بهم إذا ما قل عددهم، بعد أسابيع من الرعب شهدت مقتل 7 مسيحيين، إلى جانب اعتداءات أخرى.
«لا يا أبونا الشحططة صعبة وإحنا تعبنا. ربنا إيه اللى يرضيه عذابنا ده. كفاية بقي كلام مش بيطيب جرح. عيالنا ورجالتنا بيتقلتوا قدامنا. وهربنا من بيوتنا. وإنتوا تقولوا لنا ربنا يعزيكم وترجعوا بيوتكم وكنايسكم بعيد عننا» بعصبية ردت «الست عواطف» على كلام القمص سوريال عزيز، بأن ما يحدث هو تجربة من الله وعليهم احتمالها.
بذل عدد كبير من المواطنين في الإسماعيلية جهودًا لمساعدة الأسر النازحة، حيث تبرع العشرات بأغطية وطعام وملابس، كما تبرع أحد المواطنين – طلب عدم ذكر اسمه- بتوفير عقار بأكمله تدفع فيه الكنيسة إيجار رمزي، لاستضافة بعض الأسر. لكن النتيجة؛ أن الشقة الواحدة (حجرتين وصالة) صارت تضم أحيانًا ما يقرب من 22 فردًا يكونون أسرة واحدة.
وبينما تجلس الأسر ويحاول الصحفيون جمع أكبر قدر ممكن من القصص، يتبارى الأطفال في مشاغبة الصحفيين ومتابعة عملهم وأدواتهم، ويحاولون لفت انتباههم بسرد قصص عن رؤيتهم لصور الجثث المتفحمة وأحاديث أهلهم عن قتل الرجال والنساء، ثم يعودون للعبهم علي ضفاف القناة مرة أخري، قبل أن يطاردوا الصحفيين بقصص أخرى عن ذكرياتهم مع الموت والرصاص والقنابل، بتفاصيل مختلفة أكثر إثارة ورعبًا.
النساء شهداء أحياء
«صوت سُمع في الرامة، نَوْح وبكاء وعويل كثير.. رَاحيل تبكي على أَولادها ولا تريد أن تتعزى.. لأنهم ليسوا بموجودين» (إنجيل متى 2: 18)
روى الكتاب المقدس عن نوح الأمهات اللواتي أمر هيرودس بقتل أطفالهن الذكور، خوفًا من تحقيق نبوءة التوراة عن ميلاد ملك آخر يهز عرشه، والمقصود به يسوع (المسيح) الذي نجا بحياته عندما هربت به عائلته إلي مصر.
كراحيل النائحة؛ سيطرت النساء بملابسهن البسيطة علي صدارة المشهد. تحملن عبء الاستيقاظ لجمع حاجيات أسرهن وإعدادها للرحيل. جمعت النائحات ملابسهن وملابس أطفالهن وأزواجهن والأوراق الرسمية المهمة وبعض متعلقات الأسرة الثمينة التي يسهل حملها كالذهب والأموال.
سيدات قبطيات منشغلات بمصير الأبناء – تصوير صموئيل محسن
كانت الدار عزيزة، لكن حياة الأبناء والأزواج المهددة أعز: «أنا مش خايفة من الموت لأني كدة كدة ميتة عشان عندي سرطان. لكن أنا أصريت أننا نهرب عشان عندي 4 صبيان وجوزي وهما بيقتلوا الرجالة. إيه لزمتي أنا أعيش والرجالة دي تموت؟ أنا خرجت من الإسماعيلية من 36 سنة لما اتجوزت وعشت في العريش. دلوقتي أرجعها هربانة من الموت؟!». يتناقض صوتها الغاضب مع ضعفها البادي بينما تفترش أرض كنيسة الأنبا أنطونيوس، محاطة بعشرات من أفراد أسرتها، بينما طلبت عدم نشر اسمها خشية إيذائهم.
عندما فقدت زوجها عطية شحاتة عطية، ضابط المشاة الذي لقي حتفه في تفجير كمين المطافئ غرب العريش؛ لم تتوقع أنجيل عطية أن تترك بيتها وذكرى زوجها خلفها بعد شهر واحد من فقدانها إياه: «بقي كدة يا وطن ياللي جوزي بيقول عليك عزيز تاخده غدر وسبتني أتطلم؟ ودلوقتي أخرج من بيتي بالجلابية اللى عليّا؟ فين الجيش اللى جوزي سابني أربي العيال وحدي عشان يخدم فيه عمره كله؟»
أخبار القتل المتوالية انتزعت أنجيل من أحزانها على رحيل زوجها، وانشغالها طوال الشهر الذي تلا وفاته بإقناع الدولة بصرف معاش الراحل لها، كي تتمكن من الاستمرار في إعالة أسرتها، لتجد نفسها أمام تحد آخر؛ فلم تعد أقصى مشاكلها إيجاد مصدر دخل لأسرتها، بل مجرد حماية حياة أفراد هذه الأسرة.
رغم أوجاعهن؛ حرصت الأمهات والجدات على التأكد من وجود طعام وأغطية كافية، والانشغال بمراقبة الأطفال الذين أصبحوا الآن الهم الأكبر، نظرًا لتعرض بعضهم لصدمات عصبية. ويتشاغلن بالتفكير في كيفية حل أزمة تسكين أولادهن في المدارس، خاصة أن منهم من كان ينتظر خوض امتحانات الثانوية العامة خلال أشهر معدودة.
مستقبل غامض
«أنا فجأة لقيت نفسي زي السوريين، باجري بهدومي عشان أهرب من الموت. أنا عندي بنتين؛ الكبيرة نرمين عندها 9 سنين، والصغيرة نانسي 7 سنين. خلتهم ياخدوا شنط المدرسة وفيها الكتب عشان أتابع معاهم هنا لأن مش عارفة هنرجع إمتى. والناس يقولوا مصر أحسن من سوريا والعراق اللى فيها حرب؟! ييجوا يشوفوا حياتنا ويشوفوا الموت بيطاردنا. وإزاي بقينا لاجئين في بلدنا». بعصبية تتابع ميرفت (اسم مستعار)، زوجة ماهر فايز، أحد أفراد عائلة القتيل «مدحت سعد حنا».
تهدد أزمة الانقطاع عن الدراسة أبناء المسيحيين النازحين من العريش، حيث توقف الأطفال عن الذهاب للمدارس بعد تهجيرهم مع أسرهم، ومن بينهم طلبة في الثانوية العامة، بينما يواجه طلبة الجامعات أزمة أكبر وهي بدء الدراسة في الكليات العملية بالأخص.
يقول مينا مجدي الطالب بالفرقة الخامسة بكلية طب الأسنان بجامعة سيناء: «إحنا أكتر من سبعين طالب مسيحي في كليات مختلفة في جامعة سيناء، وقاعدين في استراحة كنيسة السيدة العذراء ومارمينا في المساعيد قبل العريش بقليل. والدراسة بدأت من أسبوعين ومش عارفين نعمل إيه. والجامعة متجاهلة مطالبنا وهي إننا نتنقل لكليات أخري. أنا فاضل لي ترم واتخرج. لكن زمايلنا في اللى لسه قدامه سنتين وتلاتة هيعملوا إيه؟ كانوا بيقولوا الدنيا متأمنة، وأولياء أمورنا بعتوا والجامعة لم تستجب. دلوقتي إحنا خايفين نروح.. إيه الحل؟»
خذلان
أصرت النساء علي الحديث مع الإعلام، إلا أن بعضهن طلبن عدم التقاط صورهن أو ذكر أسمائهن، وكان إصرارهن نابع عن إحساسهن بان لديهن ما يقلنه أخيرًا. تحدثن عن مشاركتهن في الانتخابات الرئاسية وتوقعاتهن بحياة أفضل بعد انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، كما تحدثن عن صدمتهن في موقف الكنيسة الذي اعتبروه تجاهلا، نظرًا لعدم حديث البابا تواضروس عنهم واكتفائه ببيان.
تقول ماري – اسم مستعار-: «فين السيسي اللى انتخبناه ووقفنا معاه. فين من حياتنا والأمن والسيطرة اللي بيقول عليها. لو كنا لقينا الأمن والأمان في سيناء زي ما بيقولوا مكناش سيبناها. حتى الثلاجات سايبنها شغالة لأننا مكناش نعرف هيحصل إيه. أنا مشترية حاجات بالقسط عشان بناتي وعليا جمعيات لازم أسددها، ومش عارفين هنرجع نلاقي بيوتنا وحاجاتنا ولا لأ».
من جانبها أصدرت الكنيسة الأرثوذوكسية بيانًا تدين فيه استهداف المسيحيين بشمال سيناء جاء في نصه: «ندين تلك الأحداث تعمد إلى ضرب وحدتنا الوطنية وتحاول تمزيق الاصطفاف جبهة واحدة في مواجهة الإرهاب الغاشم الذي يتم تصديره لنا من خارج مصر».
تواصل ماري بغضب: «وفين البابا مننا؟ والأنبا قزمان أسقفنا اللى قفل باب الكاتدرائية في وشنا لما قلنا له نستخبي عندك أو علي الأقل خدوا العيال. وقال لنا مفيش مكان. الراجل ده مينفعش يكون أسقفنا تاني بعد كدة. وفين التلفزيون مننا. بنشوف سوريا والعراق في برامجكم، لكن عمرنا ما شفنا سيناء غير كله كلام كدب».
ظهر قساوسة وشيوخ بيت العائلة فرع الإسماعيلية في المشهد ببيت شباب الإسماعيلية، حيث يقيم العدد الأكبر من الأسر، وذلك فور علمهم بنية وزيرة التضامن غادة والي الحضور بنفسها برفقة عدد من نواب البرلمان. إلا أن الأسر آثرت الابتعاد عنهم في إشارة واضحة لرفضهم التلاعب بهم واستغلالهم لتأدية دور مساعد في مشهد مكرر.
سامح منصور، زوج ابنة «سعد حنا، وهو المسن القبطي الذي قتل بالرصاص وتعرض ابنه للحرق خلال حوادث الاستهداف في العريش، يقول لـ«مدى مصر»: «لن تتزعزع الوحدة الوطنية وكلام الإنشاء، ويجيبوا شيخ وقسيس يبوسوا بعض ده، إحنا متعودين عليه. اللى إحنا فيه مش فتنة طائفية لأن اللى ساعدني أهرب كان جيراني المسلمين، وناس كتير جيرانهم المسلمين حاولوا يساعدوهم، فكفاية كلام… البابا ميعرفش عننا حاجة. والأسقف بتاعنا سيدنا قزمان عرف الحادثة بتاعت نسيبي فساب البلد ومشي».
في سياق متكرر وعقب الحوادث الإرهابية في سيناء، تخرج القوات المسلحة مؤكدة إحكام قبضتها وسيطرتها علي المنطقة سواء في بيانات المتحدث العسكري ، أم في اللقاءات التي تجمع القيادات العسكرية والمسؤولين في اللقاءات الرسمية. لكن ماهر فايز له رأي آخر: «عمي وابن عمي اتقتلوا في بيتهم، وبعد ما قتلوهم ولعوا في البيت ومشيوا. الأحداث دي كلها و8 حالات في ظرف 10 أيام. والاستهداف للمسيحيين عايزين نعرف ليش؟ والبلد تكتمنا إحنا عشان الحكومة ميبقاش شكلها وحش وتبان مش مسيطرة. وأي كلام عن السيطرة الأمنية كذب».
يتابع مضيفًا «يعملوا حملة أمنية. ساعتين زمن يلموا الناس اللى مش معاها بطايق أو ماشية مخالف. إنما الناس اللى عارفين أنهم إرهابيين مفيش أي نية للقبض عليهم. كانوا بيقولوا أنهم علي أطراف البلد، دلوقتي ازاي نجحوا المتطرفين دول اللى معظمهم شباب في العشرينات يدخلوا قلب البلد اللى فيها جيش وشرطة ومخابرات؟ وازاي بيعدي السلاح من وسطهم؟»
والدولة تُطمئِن
«في غضون 3 أو 4 أيام، كل الناس هتقدر ترجع بيوتهم في العريش». بثقة أدلت وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي بهذا التصريح خلال زيارتها، اليوم السبت، بصحبة عدد من أعضاء مجلس النواب لبيت الشباب في الإسماعيلية. لكن الأسر النازحة لم تجد في كلام الوزيرة ما يُطمئن. يقول سامح منصور: «الست الوزيرة بتقول كام يوم ونرجع؟! يعني اللى معرفوش ييعملوه في 3 سنين هيعملوه فجأة كدة؟ إحنا مشينا سواء كان في إجازة من الشغل أو مفيش، لأني عرفت إن اللي قتلوا حمايا وأخو مراتي جم بيتنا يدوروا عليّ من جاري. أنا عن نفسي عايش هناك ومشفتش سيطرة لأن العساكر كمان بتموت. إنت بتضحك علي لو بتقول لي هتظبط الأمور، وبتحكم علي بالموت لو رجعتني هناك».
وفي مشهد لا يقل بؤسًا عن مشهد النساء، بدا الرجال مهزومين، تعكس وجوههم هزيمة وانكسار أمام زوجاتهم وأطفالهم. يجلسون في حلقات لبحث وضعهم الحالي، وعجزهم عن حماية أرضهم وممتلكاتهم ونزوحهم بعد ضغط نسائهم عليهم للهرب. «أنا كان نفسي اتنقل من 3 سنين لأننا في أزمة من بدري. هو الإعلام بس اللى لسه واخد باله بعد ما الأزمة بقت كارثة لأن القتل بقي كل يوم. وكتير موظفين زيي عايزين ننقل، لأن من أول ثورة 25 يناير لغاية وقتنا ده بنموت بالبطيء، لا عارفين نروح شغل ولا نعيش حياة سوية مع أطفالنا ولا نعرف ننام أو ناكل. أنا قدمت طلب واترفض. والمحافظ رفض نقلنا وقال لنا دي تعليمات جاية لي من فوق إني منقلش حد ولا أوافق علي انتداب»، يقول سامح منصور.
عشرات القصص لعشرات الأسر، يرويها أبطالها بشوق ورغبة في إيصالها للعلن متجاوزين خوفهم من الإعلام. يقول سامح «أنا عايش في العريش ميت. بحب بلدي وهي مبتحبنيش. أنا عايزها وهي مش عايزاني أعيش» يختم كلامه ويحتضن زوجته التي فقدت أباها وشقيقها منذ أيام.
الغضب واليأس.. رفيقا رحلة الأقباط النازحين من العريش للإسماعيلية