In In Arabic - بالعربي

اسحق إبراهيم ـ مدى مصر

رغم تراجع الزخم الإعلامي والسياسي الذي صاحب مقتل بائع السمك مجدي مكين جراء تعذيبه داخل قسم شرطة الأميرية، إلا أن هذه الجريمة فجّرت عددًا من الأسئلة التي تحتاج إلى مناقشة جادة ورصينة. وعلى أهمية دعم أهالي الضحية والمطالبة بتوقيع العقاب على المتورطين في التعذيب، لكن هناك جوانب أخرى مهمة أيضًا ترتبط بالتعامل مع خصوصية الانتهاكات التي يتعرض لها الأقباط؛ المساحة بين التناول الطائفي والتناول أو التعتيم العام، موضع هوية مكين الدينية في الأحداث، ودور الأطراف الرئيسية في التعامل مع الجريمة البشعة، لا سيما أن وزارة الداخلية اعتمدت منهجًا متنوعًا للتعامل مع الأزمة، بداية من نفى واقعة التعذيب، مرورًا بنشر السجل الجنائي للضحية، انتهاءً بقيام أعضاء بمجلس النواب (ضباط سابقين) بزيارة أسرة مكين ونشر تصريحات لتهدئة المشاعر المحتقنة عن انتظار تقرير الطب الشرعي.

عقب وقوع الجريمة، تجاهلت وسائل الإعلام نشر تفاصيلها، ثم تحول هذا التجاهل إلى هجوم على الضحية عندما نقلت وسائل التواصل الاجتماعي على مسامع المصريين قصة مكين، خصوصًا بعد أن أظهرت صور الضحية مستوى التعذيب الذي تعرض له. نفى الإعلاميون المحسوبون على النظام وقوع التعذيب، بل قدم أحمد موسي رؤية ساذجة عن المؤامرة على مصر مستندًا على تشابه اسم وزير الخارجية الأمريكي جون ماكين واسم ضحية التعذيب. خلال هذه الفترة تجاهل كبار النشطاء السياسيين والحقوقيين ممن لهم مواقف واضحة ضد التعذيب واقعة مكين، وكأن شيئًا لم يحدث. هنا طرح السؤال على الأقل من قطاع من الأقباط: هل لعبت هوية مكين الدينية دورًا في وقوع الجريمة والتعامل معها فيما بعد؟

التعذيب جريمة يقوم بها قطاع من رجال الشرطة بشكل معتاد، ضد مسلمين ومسيحيين، ولها علاقة مباشرة بالحالة الاجتماعية والاقتصادية للمقبوض عليهم، وبعدم محاسبة القائمين بها، لكن أيضًا، فانتماء المواطن لأقلية يعرضه أكثر لانتهاك حقوقه، حيث يكون أكثر ضعفًا وأقل نفوذًا، وتكون فرص الإفلات من العقاب أفضل. في حالة مكين دعم هذا الطرح ما أشرنا إليه من تجاهل واضح للقضية، فأصبح البعض يقارن بين اهتمام هناك وتجاهل هنا،وكأن لسان حاله يقول إن من يملؤون الدنيا ضجيجًا على التعذيب – وهذا ضروري– يصمتون إذا كان الضحية مسيحيًا.

وعندما زاد الاهتمام الإعلامي بقضية مكين، بعدما نجح نشطاء أقباط في طرحها ونقلها لوسائل التواصل الاجتماعي وللمسؤولين، انتقلنا لإشكالية التناول الوطني في مواجهة التناول الطائفي، وهى إشكالية مفتعلة، فلا يوجد ما يتعارض بين الدفاع عن حق مكين كإنسان مصري فقير يعمل باليومية قُتل بدم بارد نتيجة ممارسات وبطش مؤسسة من مؤسسات الدولة منوط بها تنفيذ القانون، وبين الدفاع عن حق مكين من أقباط يرون أن ديانة الضحية لعبت دورًا في وقوع الجريمة والتعامل مع تداعياتها، لاسيما أن الشماتة والسخرية طغت على تعليقات البعض ممن ربطوا بين ديانة الضحية وبين مواقف يعتبرها البعض سياسية لرجال الدين، وكذلك بين هوية الضحية وموقف قطاع من الأقباط من ضحايا فض اعتصامي رابعة والنهضة، وهو ربط مغرض يؤكد طائفية من يتبناه، فالحقوق ثابتة لكل إنسان بغض النظر عن ديانته، والدفاع عن حق الحياة وصونها واجب لا يرتبط بمواقف الشخص السابقة، كما أن الحقيقة الواضحة كالشمس هي أن الأقباط ليسوا كتلة واحدة متجانسة، وأن قطاعًا منهم انتقد طريقة فض اعتصامي رابعة والنهضة ولم يكن سعيدًا بسقوط ضحايا، وتضامن إنسانيًا مع ذويهم، كما أن قطاعًا معتبرًا من الأقباط لا يزال يؤكد على صون كرامة كل إنسان وحقه في المحاكمة العادلة والمنصفة، بغض النظر عن انتمائه السياسي.

أما وزارة الداخلية، فقد أنكرت كالعادة قيام ضباطها بالتعذيب، وأرجعت الواقعة إلى إصابة الضحية بالسكر، مع الضغط الشديد على الشخصين المقبوض عليهما معه لينكرا وجود تعذيب، ثم انتقلت الداخلية من مرحلة الدفاع إلى تكتيك الهجوم، باتهام الثلاثة بالإتجار في المخدرات (ترامادول)، مع تسريب صحيفة الحالة الجنائية للضحية، وجاء فيها أنه سبق اتهامه بالإتجار بالمخدرات نهاية التسعينيات. وبغض النظر عن رواية وزارة الداخلية، والتي عادة ما تكون ملفقة في مثل هذه الوقائع، تحاول الوزارة تغيير الصورة الإيجابية للضحية عند المواطنين، من إنسان بسيط مجتهد قتلته السلطة ظلمًا، إلى مواطن شرير يتاجر في الممنوعات وتدعى أسرته مقتله، هذا المنحني من شأنه شيطنة الضحية، ومن ثم يمكن غلق ملف القضية بسهولة، فلا مسؤول يعاقَب ولا سياسة تُراجَع.

تغفل وزارة الداخلية أن للمواطن وللمتهم حقوقًا، حيث تضمن الدستور مادتين عن التعذيب؛ المادة (52)، وبمفادها فـ«التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم»، والمادة (55)، وبمفادها فـ«كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًا أو معنويًا». وبالتالي كون الضحية متهمًا في قضايا سابقة أو حالية لا ينتقص من حقوقه شيئًا.

في ظل هذا السياق، طُرحت تساؤلات أخرى: أين أعضاء مجلس النواب، أين الكنيسة من الأحداث، ولماذا اختفت المنظمات الحقوقية؟
نبدأ من الكنيسة، هل كان على الكنيسة إعلان موقفها بصراحة؟ الموضوع شائك، ويحتمل آراءً مختلفة، هناك وجهة نظر تقول إن الكنيسة تصدرت المشهد من قبل عدة مرات، وكان عليها كما تدعم النظام في ممارساته أن تنتقده عندما يكون الجرم بحجم عملية تعذيب وقتل، قام بها مسؤول ينتمي لجهاز الشرطة. ويواجَه هذا الرأي بأن الكنيسة مؤسسة دينية لا يجب أن تتورط في نقد أداء الشرطة، خصوصًا أنها لم تنتقد أداءها من قبل عندما عذّبت مواطنين مسلمين، فإعلان موقفها في الحالة المسيحية يظهر أنها تتبنى الحقوق بمنظور طائفي.

عامة، اختفت الكنيسة من المشهد تمامًا، ولم تظهر إلا عندما قام الأنبا مكاريوس أسقف المنيا بزيارة شخصية لتعزية الأسرة، وانتقد خلالها ممارسات رجال الشرطة التي أودت بحياة مكين. وقامت بعض الصحف باجتزاء كلماته وتصديرها بوصفها بيانًا رسميًا من الكنسية، وهو ما نفته الكنيسة سريعًا، حيث أصدرت بيانًا بعدها بعدة ساعات أكدت خلاله أنها لم تعلق على الأحداث وتطالب بتنفيذ القانون، وأنها لم ترسل أو تفوض أحدًا للحديث باسمها. وتعرض الأسقف لهجوم عنيف من قبل الإعلام وعدد من مسؤولي الدولة، لا سيما أن أجهزة الأمن لا ترتاح لشخصه الذي طالما انتقد ممارسات رجال الشرطة في أحداث الاعتداءات الطائفية في المنيا. وبعد يومين من الزيارة، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية التي ينتمي إليها مكين مذهبيًا بيانًا أكدت فيه أن القضية جنائية وليست طائفية، ثم انتقدت زيارة الأنبا مكاريوس بشكل صريح مشيرة للجدل الذي صاحبها.

لا تمكن قراءة موقف الكنيسة بمعزل عن طبيعة علاقتها بالنظام الحاكم ورؤيتها لدورها، فلم نعتد أن تقدّم الكنيسة نقدًا صريحًا ومباشرًا لممارسات السلطة الخاطئة أو لتجاوزات أعضائها إلا في عدد محدود من الأحداث الطائفية الفجة، فالكنائس المصرية لم تعرف لاهوت التحرير، ولم تتخذ مواقف واضحة وقوية لمناصرة حقوق الفقراء في وجه بطش السلطة.

أما أعضاء البرلمان، ففي البداية اختفى عدد كبير من النواب الذين كانوا يحجون إلى الكنائس والأقباط للحصول على دعمهم في الانتخابات، وبالأخص نواب حزب «المصريين الأحرار»، ثم تصدرت مشهد الدفاع عن وزارة الداخلية لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب التي يقودها ضابط شرطة (يشغل أيضًا منصب رئيس الهيئة البرلمانية لحزب المصريين الأحرار)، حيث أعلن أن اللجنة زارت قسم الأميرية للاطمئنان على سير العمل، وأنها تأكدت أن الضحية لم يتعرض لتعذيب وأنه متهم في قضية إتجار في المخدرات. وتزامن هذا مع صمت أغلبية نواب كوتة الأقباط، باستثناء نادية هنري التي أعلنت، بالإضافة إلى هيثم الحريري ومحمد عبد الغني، أنهم سيقدمون طلبات إحاطة لوزير الداخلية عن التعذيب في أقسام الشرطة، قبل أن يفصلها حزب المصريين الأحرار الذي تنتمي إليه عقابًا لها على نقدها لوزارة الداخلية.

أتى موقف أعضاء البرلمان متجانسًا مع الموقف الرسمي للحكومة، التي عادة ما يدافع عن ممارساتها، ولا أعتقد أن البرلمان سيفتح نقاشًا جادًا حول التعذيب، وإنما سيكتفي بدور لجنة حقوق الإنسان الذي أشرنا إليه.
على نحو متصل، وجه البعض نقدًا شديدًا لمنظمات حقوق الإنسان، التي اتهمت بأنها تعمل بمعايير مزدوجة، وكان السؤال المطروح هو أين المنظمات الحقوقية؟ المدهش أن هذا الاتهام صدر عن فريقين، أولهما يتخذ موقفًا عدائيًا من هذه المنظمات، ويطالب بإغلاقها أو منعها من القيام بعملها، أما الفريق الثاني فطالما انتقد دور المنظمات الحقوقية وحمّلها أخطاء السلطة، وكأنها هي صاحبة القرار، وذلك نتيجة قصور في فهم طبيعة عمل المنظمات الحقوقية وقدرتها على التدخل وتغطية كل الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون.

منظمات حقوق الإنسان بطبيعة الحال فيها المنظمات التي تعمل وتشتبك مع هموم ومشاكل المواطنين، وفيها المنظمات التي ليس لها دور ملموس، وفيها المنظمات التي توقفت عن العمل بعد التهديدات والضغوط التي فرضتها الحكومة خلال العامين الماضيين، وفيها المنظمات التي ترى أن دورها قاصر على الدفاع عن ممارسات الحكومة ومهاجمة المنظمات الجادة. هذه المنظمات لا تملك قرار التحقيق أو التعامل القانوني مع الواقعة، وإنما ترصد وتوثق وتضغط للمحاسبة وتسعى لتغيير الوضع التشريعي. وفي حالتنا، اختفت المنظمات بالطبع عن المشهد، وهو خطأ فادح، لكن لا يجب تقييم عملها في ملف التعذيب وتجاوزات الشرطة من خلال حالة واحدة، فكثير منها لديها سجل حافل بالعمل في قضايا التعذيب ومحاربته في ظل ظروف صعبة. وندلل بما يحدث مع المحامي الحقوقي نجاد البرعي من ملاحقة قضائية، وهو المعرض لصدور حكم بإدانته لأنه سعى لوضع مشروع قانون لمكافحة التعذيب.

أخشى أن يكون الهدف من توجيه أصابع النقد للمنظمات الحقوقية هو تشتيت المسئولية وتقسيمها، وتحميل أطرافًا ثانوية جزءًا منها، وللأسف فقد وقع أصدقاء فعلًا في هذا الفخ. المنظمات الحقوقية في الوقت الحالي تصارع للبقاء، وقد يحكم عليها النظام بالموت فور صدور قانون الجمعيات الأهلية الذي يعده البرلمان.

أخيرًا، فالضمانة الوحيد لمنع تكرار ما حدث لمجدي مكين هي الضغط، ليس من أجل محاسبة المتورطين في الجريمة فحسب، لكن أيضًا من أجل ضمان عدم تكرارها، ولن يتأتى هذا إلا من خلال تشديد عقوبة جريمة التعذيب والرقابة الرسمية والشعبية على جهات إنفاذ القانون، أن نملك القدرة والرغبة في الدفاع عمن يتعرضون للتعذيب، سواء انتموا لنفس هويتنا الدينية و السياسية أم لم ينتموا، ندافع عن الضحايا حتى لو كانوا متهمين على ذمة قضايا أو مذنبين صدرت بحقهم أحكام.
___________________________________
http://www.madamasr.com/ar/2016/12/06/opinion/u

Recent Posts

Leave a Comment