حسام بدراوي ـ المصري اليوم ـ
في زمن تتقاطع فيه السياسة مع الدين، ويُعاد فيه تشكيل الأدوار داخل المؤسسات في مصر، تبرز الحاجة الملحة لإعادة التأكيد على المبادئ الدستورية التي ارتضاها الشعب المصري في أعقاب ثورته.
لقد نصت ديباجة الدستور المصري لعام ٢٠١٤ على أن «مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة». وهذه العبارة ليست مجرد إنشاء لغوى، بل تعكس رؤية تأسيسية تؤكد أن المرجعية العليا في شؤون الحكم والتشريع هي الدستور والقانون، لا الفتوى أو الاجتهاد الديني، مهما بلغ قَدرُ الجهة المُصدِرة لها.
من المفارقات الصارخة في المشهد المصري أنه مع رفع شعار العداء للإخوان المسلمين، كفصيل سيأسى هناك تبنٍ في العمق لأكثر الأفكار التي صاغها الإخوان والسلفيون، وكأن الصراع لم يكن مع جوهر الفكر، بل مع من يجلس على الكرسي. هذا التناقض يزرع في وعى المجتمع ازدواجية خطيرة: خطاب رسمي يعلن الحرب على الإسلام السياسي، وسياسات واقعية تغذّى روافده في التعليم والثقافة والدين.
لقد أصبحت المؤسسة الدينية حارسًا على الرأي بالقانون، لم يعد من حق أي مفكّر أو مجتهد أن يبدى رأيًا في الدين إلا عبر بوابة «هيئة كبار العلماء»، وهي مؤسسة أنشأها الإخوان في دستور ٢٠١٢، واستمرت رغم أنها كيان غامض لا يعرف الناس أسماء أعضائه ولا كيف يُختارون. المفارقة أن هذه الهيئة صارت بمثابة رقيب أعلى على الفكر، في بلد كان منارة الاجتهاد منذ قرون.
في نفس الوقت يتم تعيين ورفع مكانة العديد من الإعلاميين ذوي الارتباط السابق والواضح بالفصيل السياسي للإخوان في مراكز مؤثرة في صناعة الرأي العام.
وفى الآونة الأخيرة أصبحت وزارة الأوقاف شريكًا إعلاميًا في افتتاح المشاريع، (..)، ويتم رفع وزير الأوقاف على الأكتاف وكأنه زعيم سيأسى.
من فضاء التفكير إلى معمل للطاعة أرى مدخلًا من التعليم. أخطر ما يجرى هو إعادة تديين المجال التعليمي بأدوات التلقين والطاعة. فبدلًا من فتح آفاق التفكير النقدي، وإتاحة مساحة للغات والعلوم والتكنولوجيا، نجد مناهج الدين مقررة في الثانوية العامة كمواد نجاح وسقوط، بلا منطق تربوي أو علمي. وكأن رسالة التعليم لم تعد صناعة عقل مستقل، بل صناعة عقل خاضع.
يزداد الأمر خطورة مع الدعوة لانتشار آلاف «الكتاتيب» للأطفال في سن ما قبل المدرسة، وهي المرحلة الأهم في تشكيل العقل. ما يحدث هو إقصاء للخيال والفضول، واستبدال التلقين به، وإغلاق الباب مبكرًا أمام أي بذرة للنقد أو الإبداع. إنها عودة مقنّعة إلى مشروع الإخوان: جيل يطيع قبل أن يفكّر.
معلمو هذه المرحلة هم الأهم في الإعداد، وأتعجب أن يكون ذلك مسؤولية رجال الدين وليس من نعدهم لذلك.
يبدو التناقض أكثر وضوحًا حين يستعمل الدين في الخطابات، لتُلبس القرارات والصراعات لبوس القداسة. هنا يختفي الحدّ الفاصل بين الدولة المدنية والدولة الثيوقراطية، ويُستحضر فكر الإخوان والسلفية كظلّ يشرعن الحكم، حتى لو كان العدو المُعلن هو ذات التيار. الخلاصة أنها معركة مؤجلة ضد الذات.
وما يجرى ليس مجرد سوء تقدير، بل هو تغلغل عميق لفكر الإخوان والسلفيين تحت عباءة الدولة، وتناقض يهدّد مستقبل مصر الثقافي والسياسي. فالمعركة الحقيقية ليست مع جماعة محظورة، بل مع الفكر الذي تسرّب إلى مفاصل السياسة والتعليم والإعلام.
في الدولة المدنية، السيادة للشعب، والتشريع لممثليه، والمرجعية هي القانون، لا الفتوى. وفى هذا السياق، فإن أي محاولة لإعادة إنتاج شكل من أشكال «ولاية الفقيه» بغطاء مؤسسي جديد، ستكون خروجًا على العقد الدستوري، وارتدادًا عن مكاسب الدولة الحديثة.
أؤكد أن المدنية لا تعنى العداء للدين، بل تعنى الفصل بين الديني والتشريعي، مع احترام كامل لقيمة الدين كرافد أخلاقي وثقافي، وليس كأداة لإصدار أو تنفيذ التشريعات.
إن إحياء دور العلماء في التوجيه الديني أمر محمود، شرط أن يبقى ذلك ضمن الحدود التي رسمها الدستور. ولا يجوز لأي مؤسسة، دينية أو غيرها، أن تتجاوز سلطاتها وتفرض وصايتها على العقل أو على التعليم أو القانون.
من هنا، فإن الضامن الحقيقي لوحدة المرجعية القانونية فى مصر هو التمسك بالدستور، واحترام دور المحكمة الدستورية، والتمييز الواضح بين ما هو دينٌ لله، وما هو حكمٌ للناس.
من أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لا تعادى الدين أو ترفضه، بل إن الدين يظل في الدولة المدنية عاملًا في بناء الأخلاق، وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي، وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة.
لا يجب أن نتناسى أن في مصر ١٨ مليون مسيحي، وأن أقباط مصر ليسوا أقلية، بل هم مكون رئيسي من نسيج المجتمع.
أما لماذا نريد دستورًا مدنيًا بالتعريف الذي نذكره في رؤية المستقبل وتطبيقًا لفلسفة الدستور، فذلك لأن تداول السلطة، والرقابة على مؤسسات الدولة، والتوازن بين السلطات هو الحامي للمجتمع ككل وللأفراد ولحقوقهم المذكورة فيه، فلا حكم باسم الله عن طريق وسطاء يضعون أنفسهم وكلاء بين الإنسان وربه، ولا يصح تسريب الوجدان أحادي الفكر السلفي الإخواني في نسيج الدولة، ولا بأي فرد أو مجموعة تضع نفسها فوق المساءلة الدستورية الدورية، وتتعرض لتداول السلطة، فلا تتجبر ولا تتسيد على المجتمع بأي حجة كانت.
هناك لحظات في تاريخ الأمم تُنذر بالخطر، لا لحداثة المشهد، بل لتكراره الأعمى.
ولعل ما نراه في مصر بغياب البدائل المدنية يؤدى حتمًا إلى الحكم الديني المتأسلم الذي يملك التمويل والتنظيم الدولي، وأحيانًا المساندة المخابراتية الغربية للأسف.
هذه ليست بأزمة مفاجئة، بل انحدار ناعم نحو المأساة، ونحن لا نريد فوضى ولا تكرارًا لنفس التجارب التي أدت إلى تدهور البلاد من قبل.
______________________________