مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ـ
أسفر التفجير الانتحاري المدمر الذي استهدف كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة بدمشق في 22 يونيو/حزيران عن مقتل ما لا يقل عن 22 شخصًا وإصابة العشرات بجروح بالغة. هذه الجريمة الشنعاء تتجاوز كونها مجرد مأساة؛ إذ تمثل إنذارًا بالغ الخطورة بشأن تصاعد التهديدات التي تواجه الأقليات في سوريا، بما في ذلك التطرف العنيف وخطاب الكراهية والتحريض الطائفي.
يأتي هذا الهجوم ضمن نمط مقلق متواصل من أعمال العنف والقتل والانتقام من الأقليات، إذ سبق وتم استهداف مدنيين علويين في عدة مناطق بينها اللاذقية وطرطوس على الساحل في وقت سابق من هذا العام. فضلًا عن العنف الطائفي بحق الدروز في السويداء. هذه الوقائع، بما تخللها من عقاب جماعي وقتل عشوائي، تكشف عن مدى تجذر التوترات الطائفية، وسهولة استغلالها في تأجيج الصراع المجتمعي، في ظل غياب تدابير حماية فعالة وحوكمة شاملة. ومن ثم، ففي بلد لا يزال يعاني تبعات جرائم النظام السابق، وانقسامات عميقة، من الضروري توجيه رسالة واضحة لا لبس فيها بأن؛ حماية النسيج المتنوع في سوريا، من مختلف الهويات العرقية والدينية والاجتماعية، يُعد أولوية باتة لمستقبل هذا الوطن.
ولتحقيق ذلك، يتعين على السلطات السورية وضع استراتيجية وطنية تستند إلى ثلاثة ركائز أساسية؛ المساءلة، والحماية من خطاب الكراهية والتطرف، والحوكمة التشاركية.
ينبغي أن تبعث الدولة السورية برسالة واضحة مفادها أن مرتكبي أعمال العنف الطائفي لن يفلتوا من العقاب. ففيما نرحب بمبادرات المساءلة، وإعلان وزارة الداخلية السورية اعتقال عدد من الأشخاص المرتبطين بتنظيم «داعش» متهمين بالتورط في الهجوم بعد أقل من 24 ساعة من تنفيذه، من الضروري أن تكون أي تحقيقات أو محاكمات شفافة ومستقلة وممتثلة بشكل كامل لضمانات المحاكمة العادلة.
في مارس/آذار 2025، أعلنت الرئاسة السورية تشكيل لجنة وطنية لتقصي الحقائق، للتحقيق في أعمال العنف التي شهدها الساحل السوري، إلا أنه، وبعد عدة أشهر، لم يُنشر أي تقرير، ولم تبدأ أية محاكمات، ولم يحصل الضحايا وعائلاتهم على أي جبر ضرر. ولعل نشر التقرير الكامل بشأن مجازر الساحل، والشروع في محاكمات موثوقة، خطوات أساسية لاستعادة ثقة الرأي العام. هذا بالإضافة إلى ضرورة إرساء آليات مساءلة شاملة وجادة عن جميع الجرائم المرتكبة قبل سقوط نظام الأسد، كتحرك جوهري لكسر حلقة العنف. فرغم إعلان الحكومة السورية في مايو/أيار عن تشكيل «اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية»، إلا أن تركيز اللجنة على جرائم النظام السابق فقط، واستبعاد الجرائم المرتكبة من أطراف أخرى، أثار انتقادات واسعة وغضبًا في أوساط السوريين.
أما عن تفكيك جذور التطرف، فتضطلع الحكومة السورية بدور جوهري في هذا الصدد، من خلال مواجهة الخطابات التحريضية التي تغذي الكراهية. إذ وثق تقرير صادر عن منظمة «سوريون من أجل الحقيقة والعدالة»، استخدام القنوات الإعلامية وقادة الميليشيات منصات الإنترنت للتحريض على العنف والانقسام خلال مجازر الساحل. لذلك، من المهم أن تضمن السلطات الانتقالية محاسبة أي طرف يستخدم خطابًا يحرض على الكراهية أو يمجّد الطائفية، سواء ضد العلويين أو المسيحيين أو الدروز أو أي من الأقليات الأخرى.
أن الحماية الحقيقية للأقليات لن تتحقق إلا من خلال حوكمة تشاركية شاملة. ومع ذلك، لا تزال المؤسسات الوطنية الأساسية خاضعة حتى اليوم لمصالح سياسية وأيديولوجية ضيقة. إذ يضم التشكيل الوزاري الانتقالي الذي أُعلن عنه في مارس/آذار 2025 تمثيلًا هامشيًا للأقليات، بينما تسيطر على جميع المناصب الرئيسية مجموعات مرتبطة بـ«هيئة تحرير الشام». وبالمثل، يفتقر الإطار الدستوري الانتقالي إلى ضمانات ملموسة للمساواة الدينية والعرقية، مكتفيًا بالاعتراف الاسمي بحرية المعتقد. وينص على أن يكون رئيس الجمهورية مسلمًا، ويُعتمد الفقه الإسلامي مصدرًا رئيسيًا للتشريع، بما يرسخ بنية قانونية تمييزية تهمّش الأقليات الدينية والعرقية. كما يتيح الدستور الانتقالي فرض قيود على ممارسة الشعائر الدينية تحت ذريعة الحفاظ على «النظام العام» — وهي عبارة فضفاضة قد تُستغل لفرض قيود غير مشروعة على حرية الدين والمعتقد.
لذا، ينبغي أن تضمن السلطات السورية تمثيل الأقليات في كافة جوانب الحياة العامة، بما في ذلك الحكومة، والخدمة المدنية، وأجهزة الأمن، وأن تُشرك جميع مكونات المجتمع في تخطيط مستقبل البلاد. ومن أجل ذلك، يجب أن تكون الانتخابات التشريعية لمجلس الشعب السوري شفافة ومستقلة وتعكس التنوع الإقليمي والإثني والديني في سوريا. ولا يقل أهمية عن ذلك؛ الحاجة إلى جهود حقيقية وجادة من أجل حوار وطني جديد، يدمج الأصوات من مختلف الخلفيات العرقية والدينية والثقافية، خلافًا لمؤتمر الحوار الوطني الفاشل والشكلي الذي عُقد في مارس/آذار، والذي استبعد العديد من أصوات الأقليات، مما أفقده الشرعية والمصداقية.
كما ينبغي على السلطات السورية الانتقالية التعاون بشكل كامل مع كل من الآلية الدولية المستقلة المحايدة المعنية بسوريا (IIIM) ولجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا (COI)، وأن تتيح لهما إمكانية الوصول، بما يمكّنهما من المساعدة في جمع الأدلة وضمان المساءلة عن هذه الجرائم. وأن تسمح للخبراء الأمميين المعنيين بزيارة البلاد، وخاصة المقرر الأممي الخاص المعني بحرية الدين والمعتقد والمقرر الخاص المعني بحقوق الأقليات، بهدف تطوير توصيات تستند إلى أفضل الممارسات الدولية، لضمان حماية وتمثيل أقوى للمجموعات الدينية والأقليات ضمن المسار الانتقالي.
إن تهميش الأقليات يجعلها أكثر عرضة للعنف والاستغلال، بينما تعزز الحوكمة التشاركية الشاملة التماسك الوطني، وتحد من التطرف، وتُرسخ مبدأ المواطنة المتساوية كركيزة أساسية لوحدة سوريا.
_______________________