In In Arabic - بالعربي

محمد سعد خيرالله ـ

أصرخ ضد الصمت المتواطئ الذي يخفى وراءه قرون من القمع المستمر. أرفع صوتي ضد نمط مروع من الإجبار على تغيير الدين واختطاف الفتيات القبطيات في مصر. هذه الجرائم ليست حوادث معزولة، بل هي جزء من سياسة أوسع نطاقًا ومخيفة تهدف إلى أسلمة المجتمع، وتُسهلها، إن لم تكن تُحميها، مؤسسات الدولة.

سعاد، مارلين، مريم… والقائمة التي لا تنتهي

اختفت سعاد، وهي فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، دون أي إنذار مسبق. ثم ظهرت لاحقًا في فيديو، محجبة بالكامل، تدعي أنها “اعتنقت الإسلام بمحض إرادتها”. إلا أن عائلتها، التي كانت في حالة من الصدمة، نفت هذا الادعاء بشدة، مستشهدةً بالتهديدات والإكراه والتستر الممنهج من قبل الشرطة المحلية.

اختفت مارلين أثناء ذهابها إلى المدرسة. وبعد أسابيع، عُثر عليها متزوجة من رجل سلفي في محافظة أخرى. تم منع والديها من رؤيتها، وتم تسجيل “زواجها” رسميًا لدى السلطات رغم أنها كانت قاصرًا وتم الزواج قسرًا.

أما مريم، التي كانت في السادسة عشرة من عمرها، فقد اختفت أيضًا. ثم تلقت عائلتها اتصالًا هاتفيًا يفيد بأن “ابنتكم بخير. لقد اعتنقت الإسلام، لا تبحثوا عنها”. وكان الصوت على الطرف الآخر لشخصية سلفية معروفة.

مأساة وطنية، صحوة شخصية

إن اختطاف الفتيات المسيحيات القبطيات وإجبارهن على اعتناق الإسلام ليس مجرد ظاهرة هامشية، بل هو أمر ممنهج وموثق بشكل جيد، وتحيط به حالة من الصمت. هذا الصمت ليس فقط من الدولة المصرية، بل يمتد إلى المجتمع الدولي أيضًا. أدركتُ هذه الحقيقة لأول مرة من خلال الحالتين الشهيريْن لوفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، وهما قبطيتان متزوجتان من قساوسة، واللتين أشعل “اختفاؤهما” احتجاجات قبطية حاشدة في بداية القرن الحادي والعشرين.

أنا أتهم:

أتهم جهاز الدولة الذي يسمح بوقوع هذه الجرائم. أتهم المؤسسات الدينية التي تبارك أعمال الإكراه. أتهم مجتمعًا مُبرمجًا على التصفيق لمحو الهوية المسيحية باعتباره “انتصارًا للإسلام”. هزتني هذه الأسماء في البداية، وما زال صداها يتردد في أذني.

أمة للجميع”؟ حقًا؟

إذا اختطفت دولة بناتها المسيحيات، وأجبرتهن على ارتداء الحجاب، وأجبرتهن على تغيير دينهن، وزوجتهن لجماعات سلفية متطرفة، فكيف يمكننا أن ندّعي أنها “وطن للجميع”؟ كلا، هذه ليست وحدة، بل هي فصل عنصري مُغلّف بروح وطنية.

توجد أدلة موثقة عديدة. قدّمت عائلات ثكلى شكاوى لا تُحصى. توسلت الكنائس إلى مسؤولي الأمن. ومع ذلك، نادرًا ما تتدخل الدولة. أحيانًا، تُعلن وزارة الداخلية أن “الفتاة اعتنقت الإسلام طواعيةً” و”ترفض العودة”. تُغلق القضية. تختفي الفتاة. ويخيم الحزن على العائلة.

الأسلمة القسرية: جرحٌ ممتدٌّ منذ قرون

هذه ليست ظاهرة جديدة، بل هي استراتيجية قديمة تهدف إلى تذويب الهوية المسيحية في مصر. فمنذ الأيام الأولى للغزو الإسلامي لمصر، واجه المسيحيون الإكراه والتهميش والجزية والاضطهاد. لم تكن

الأسلمة خيارًا قط، بل كانت في كثير من الأحيان الملاذ الوحيد لتجنب الانحطاط.
ومنذ الانقلاب العسكري عام 1952، لم يقتصر الأمر على عهد السادات أو مبارك فقط، بل جرى دمج الدولة والدين عمدًا. فأصبحت “الهوية الإسلامية لمصر” عقيدة دستورية، وأصبح الأقباط، الذين تجاوز عددهم الآن 17 مليونًا، غرباء في وطنهم تدريجيًا.

لم تقتصر هذه الأسلمة المنهجية على المسيحيين، بل استهدفت أيضًا جوهر التنوع الديني في مصر. فبعد نزوح نحو 90 ألف يهودي مصري في منتصف القرن الماضي، نتيجة للمضايقات والمصادرة والكراهية الممنهجة، اختفت جالية تاريخية. وما حدث كان بمثابة تطهير عرقي، لم يترك سوى ذكريات، بلا قبور أو آثار.

التواطؤ المؤسسي

تعيق قوات الأمن بشكل روتيني عودة الفتيات المختطفات سالمات، وتُجبر عائلاتهن على الصمت بحجة “الحفاظ على السلم الاجتماعي”. في بعض الحالات، تُعاقب مجتمعات بأكملها لمطالبتها بالعدالة لابنة واحدة. أصبح العقاب الجماعي هو القاعدة.

عندما تتعافى هؤلاء الفتيات في نهاية المطاف، غالبًا ما يصلن محطمات نفسيًا، بعضهن تعرض للاغتصاب والضرب والتلقين الممنهج. لا توفر الدولة أي رعاية نفسية، ولا خدمات إعادة تأهيل، ولا حتى اعترافًا رسميًا بمعاناتهن. بدلًا من ذلك، تُنبذ الناجيات، وتبقى حياتهن محطمة بشكل لا يمكن إصلاحه.

الاعتراف كبوابة للعدالة

المشكلة أعمق من مجرد الاختطاف أو الإكراه على تغيير الدين؛ إنها تكمن في تقبّل المجتمع لهذه الجرائم، بل واحتفائه بها أحيانًا. تصف وسائل الإعلام المصرية الفتيات العائدات بـ”المرتدات”، وتعاملهن الشرطة كـ”هاربات”، وتستعرضهن السلطات الدينية كغنائم. ولا تعترف أي مؤسسة قط بصدمتهن.

هذا الجو يُعزز الإفلات من العقاب، ويُشجع الفصائل السلفية على اصطياد الفتيات المُستضعفات، وخاصة في المناطق الريفية. يعمل الخاطفون بدعم من بعض المساجد، بل وحوافز مالية أحيانًا. ما هي الأجندة الخفية؟ محو المسيحية من النسيج الاجتماعي المصري بهدوء وثبات وبشكل دائم.
التمييز يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك

يعاني الأقباط من تحيز منهجي في التعليم والتوظيف والسكن والحياة العامة. ونادرًا ما يُعثر عليهم في مؤسسات النخبة أو المناصب المؤثرة. حتى الرياضة لم تسلم من ذلك: يُطلق على فريق كرة القدم المصري الأول لقب طائفي “فريق الساجدين” ، ولا يضم أي لاعب قبطي. هذه ليست مصادفة؛ إنها سياسة متعمدة.

مصر، التي كانت في يوم من الأيام مزيجًا من الأديان والثقافات، أصبحت الآن مونولوجًا واحدًا. الأقباط الذين ساهموا في بناء هذه الأمة إلى جانب المسلمين يُمحى عمدًا من تاريخها.

حتى يومنا هذا، يتجاهل النظام العسكري المصري أقدس احتفال قبطي. عيد القيامة. يزور الرئيس عبد الفتاح السيسي الكاتدرائية القبطية كل عام ليهنئ المسيحيين بعيد الميلاد المجيد، لكنه لا يحتفل بعيد القيامة ، وهو أساس الإيمان القبطي. لفتة رمزية بقدر ما هي مُدانة.
مصر منذ عام 1952

منذ انقلاب عام 1952، تحوّل وعد الجمهورية التعددية إلى مشروع حكومي لتحقيق التجانس الوطني. دُفع الأقباط إلى الهامش سياسيًا وثقافيًا، بل وحتى عدديًا. وبعد اليهود، أصبحوا هم التاليين. رُصدت كنائسهم، وتقلص حضورهم في الكتب المدرسية، ودُفع شبابهم إلى نظام يُؤسلم أو يُقصي.

مذبحة ماسبيرو: جرح لم يلتئم

في أكتوبر/تشرين الأول 2011، سحقت دبابات عسكرية ثمانية وعشرين متظاهرًا قبطيًا سلميًا خارج مبنى تلفزيون ماسبيرو الحكومي. بُثّت الجريمة، ووُثّقت الفظائع. ومع ذلك، لم يُحاسب أحد. لم تتحقق العدالة قط. ماسبيرو ليست مجرد مجزرة، بل هي مرآة تعكس استهتار النظام العسكري بحياة الأقباط.
صمت العالم

الإعلام المصري صامت. وسائل الإعلام الغربية حذرة. الأكاديميون في الغرب صامتون تقريبًا. لماذا؟

انتقاد “دولة مسلمة” يُعرّضهم لاتهامات الإسلاموفوبيا. معاناة الأقباط لا تحظى باهتمام واسع. الضحايا غير مُريحين.

لكن الصمت يُغذّي القمع، ويُشرّع الإساءة، ويُشجّع الجناة.

كسر الصمت من أجل الجميع

لا أكتب للتقسيم، بل أكتب لأن الصمت تواطؤ. هؤلاء الفتيات يستحقن الأفضل. المسيحية في مصر ليست ديانة أجنبية، بل هي ديانة قديمة، أصيلة، ومقدسة.

إذا أرادت مصر أن تنهض حقًا، فعليها أن تحتضن جميع أبنائها لا أن تمحو بعضهم. يجب فضح الأسلمة القسرية وإدانتها ووقفها. على العالم أن يرفع صوته. على المجتمع المدني المصري أن يحشد قواه. يجب ألا يأتي الإصلاح منحة، بل حقًا.

أتهم دولةً ونظامًا وصمتًا. وأرفض أن أكون جزءًا منه.

_________________________

https://m.ahewar.org/s.asp?aid=865969&r=0

محمد سعد خيرالله عضو رابطة القلم السويدية

Recent Posts

Leave a Comment