محب سمير ـ مدى مصر ـ
من بين قصص كفاح ونجاح بطلات فريق «بانوراما برشا»، تأتي قصة مونيكا لتمثل لي الأكثر اكتمالًا على مستوى الدراما، وأكثرهن إلهامًا لي، قبل غيري.
مارينا، ماجدة، هايدي، مريم، ويوستينا.. هن عضوات الفريق، وبطلات الفيلم التسجيلي «رفعت عيني للسما»، لندى رياض وأيمن الأمير، الحائز على جائزة العين الذهبية كأفضل فيلم تسجيلي للنسخة السابعة والسبعين لمهرجان كان. لكل منهن قصة ملهمة، كل واحدة فيهن خاضت أزمات وتحديات من المجتمع والأهل والنفس، انتصرت عليها بالفن. لكن لقصة مونيكا فرادتها، كونها ملحمة «بنت مختلفة» تعرضت للتنمر من مجتمع رفضها، وانتصرت عليه.
كان ذلك في صيف 2016، عائدًا كنت، إلى قريتي، البرشا، للاستقرار بها، بعد 20 عامًا قضيتها من حياتي، أعيش وأعمل في القاهرة مغتربًا، قبل أن يتبخر الحماس، وتضيق العاصمة بأحلام جيلي في التغيير والعيش والحرية، كما حلمنا وصدقنا يومًا في 2011.
في «البرشا» لامست بذرة ثمرة «يناير» في مشروع جمعية أهلية أسستها شقيقتي تريزة بالقرية في نفس عام الثورة، كما شاركت بدورها في العمل السياسي كأصغر امرأة تخوض الانتخابات التشريعية في العام نفسه، على قائمة الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، قبل أن تُنهي تجربتها السياسية، في 2016، مُكرهة، بسبب تحطم آمالها هي أيضًا في التغيير السياسي الحقيقي.
هاجرت تريزة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في نفس عام عودتي إلى «البرشا»، مصابًا بالاكتئاب والإحباط، ملقية بمسؤولية الجمعية على شقيقتنا الصغرى يوستينا، التي كانت أسست بدورها فريق مسرح شارع نسائي، أسمته «بانوراما برشا»، عام 2015، بمشاركة مجموعة فتيات، لعرض مشكلات القرية، والبنات والنساء على وجه الخصوص، في عروض مسرحية قصيرة وبسيطة، يقدمنها في شوارع «البرشا».
وقبل أن تلقى الفرقة النجاح والانتشار، واجهت لسنوات رفض واستهجان أهالي القرية نفسها، وأهالي بعض الفتيات في الفرقة أيضًا، بسخرية من هذه البنات «اللي عيارها فالت وبترقص وتتنطط في الشوارع».
**
المرة الأولى التي قابلت فيها مونيكا، كانت الأولى لكلانا في مقر الجمعية الأهلية. أنا بعد اقتراح شقيقتي يوستينا بالتعرف على شابات وشباب الجمعية المتطوعين لخدمة أهالي وأطفال قريتهم، وعلى عضوات «بانوراما برشا»، بينما حضرت مونيكا تحت إلحاح شقيقاتها الثلاث المتطوعات في الجمعية، في محاولة منهن لإخراجها من عزلتها.
كانت أولى خطوات النجاح والانتشار لـ«بانوراما برشا»، مشاركته في مهرجان مسرح شارع بدولة تونس، في عرض عنوانه «الفرح». وكان حدثًا عظيمًا بالنسبة للقرية، فلأول مرة تسافر فتيات للخارج، لغرض آخر سوى الدراسة.
كانت دميانة شقيقة مونيكا، وإحدى بطلات العرض، قد تزوجت في نهاية العام، وهي في سن الثامنة عشر، وهذه كانت وما زالت أكبر أزمات الفريق، فبطلاته اللاتي يقدمن عروضًا تعالج مشكلات الزواج المبكر، يقعن ضحية لهذا العرف، حتى ولو بدا أنه برغبتهن واختيارهن لشريك الحياة. فهن لا يرين أحلامًا وإنجازات لهن سوى تكوين أسرة، بمجرد حصول البنت على الدبلوم ووصولها للسن القانونية للزواج (18 سنة) أو قد يتأخر الزواج بضع سنوات لمن نالت قدرًا أكبر من التعليم ودخلت الجامعة، وهو حال كل البنات في القرية تقريبًا، ما تسبب في التبدل المستمر لوجوه البطلات وتغير قوام الفريق، معظم الوقت، حيث يزيد العدد أو ينقص، حول بطلاته الرئيسيات الثلاث، يوستينا ومارينا وماجدة.
متكورة على نفسها وسط مجموعة من الأطفال والمراهقات، كانت تجلس مونيكا، بجسدها الطفولي وعيونها العسلية القوية صامتة، طوال الوقت الذي قضيته معهم، نتحدث عن المسرح والموسيقى، وعن أحلامهم الطازجة البكر.
اقترحتُ عليهم أن نقوم بعمل راديو محلي للقرية، وكتبت جُملتين لأسمع أصواتهم وهم يقرأون. أول من اخترت للقراءة كانت مونيكا بسبب صمتها. تفاجأت بصوتها القوي المبحوح، وأخبرتها أن صوتها جميل يصلح لمذيعة، ولم أكن أعرف تأثير هذه الجملة عليها وعلى حياتها، وأنها مفتاح يمكنه تغيير كل شيء. كان صوتها هو أزمتها الكبرى، الذي بسببه عانت من تنمر البنات في سنها، ومن الجيران والأقارب، ما أجبرها على الانزواء عن الشارع مع بداية سن المراهقة.
كان من حسن حظ مونيكا أنها ابنة عم يوسف، رجل ذواق للفن والغناء، يحب صوت أم كلثوم ونجاة وفايزة أحمد، ونال قدرًا من التعليم. لمس الأب التغيير الذي طرأ على ابنته، بمجرد دخولها وسط مجموعة البنات في الفرقة، فقرر تركها بحريتها، وتشجيعها على ما تفعله. في كل مرة أقابله وحتى اليوم، يتذكر التحول الكبير في حياة ابنته بسبب الفن.
كانت مونيكا الابنة الصغرى بين سبع بنات وولد، لعم يوسف فهمي، الغفير النظامي، الذي زوج بناته جميعًا، ولم تبق سوى مونيكا تشغل باله. كانت قد وصلت لسن الخامسة عشر، وطوال عمرها تعاني من التنمر بسبب اختلاف في صوتها، الذي يبدو خشنًا عميقًا، عن أصوات باقي البنات. كانت تسمع من حولها ينادونها بـ«المِدًكِرة». لا تقال الكلمة في الخفاء وبالهمس، لكن في وجهها، ومع وصولها لسن البلوغ، ورغم رقة ملامحها، بدأ الجميع يعايرها بأنها لن تجد من يتزوجها بسبب صوتها. هل تتخيل معاناة أكثر من هذه لفتاة صغيرة في قرية يمارس أهلها التنمر كما شرب الماء، دون وعي منهم بمعنى الكلمة أو وقعها على ضحاياها، بسبب الجهل.
– هو الدهب بيلاقوه فين؟
= بيلاقوه في التراب.
– خلاص، ركك على واحد ينفخ فينا نفخة واحدة بس وإحنا نبرق ونلمع
(حوار بين شادية وفاطمة عمارة من فيلم أضواء المدينة)
الأصوات الجميلة في كل مكان بمصر، لكن قلما تجد من بين هذه الأصوات صوتًا يحمل بصمته الخاصة، بصمة مكانية وتاريخية وشخصية. آلاف المغنيين والمغنيات يتمتعون بالصوت الجميل، ومن كثرتهم يصعب اكتشاف الصوت المختلف والنادر من بينها. هذا بالضبط ما ينطبق على صوت مونيكا، صوت مصري صعيدي جدًا، يحمل بصمة أرض البرشا، بجمال خضرتها، وسحر صحرائها، ووحشتها، وعظمة نيلها، ومعاناة ناسها وشقائهم عبر آلاف السنين.
كما تشم رائحة وعنفوان بحر الإسكندرية في صوت بدرية السيد، وطيبة وكرم الدلتا وخيرها في صوت خضرة محمد خضر، وجمالات شيحة، ستشعر بقوة وأصالة وسحر المنيا في طبقات وبحة صوت مونيكا، ابنة «البرشا».
لم يكن الأمر هينًا بالنسبة لمونيكا. أن تصدق صوتها وتؤمن به وبنفسها وقدراتها، بعد كل هذه السنوات من التنمر والحط من شأنها وسط البنات. كانت كل فترة تأتي باكية وتعلن عدم رغبتها في الاستمرار بالغناء، بسبب كلمة سمعتها من أحدهم.
«أنا صوتي وحش وحضرتك بتضحك عليا».
أسمعها وأضحك، وأدعوها لسماع ما سجلناه بالأمس وهي تغني لأم كلثوم «فكروني».. أحكي لها عن جمالات شيحة وشفيقة وخضرة محمد خضر. تعود ضحكتها وثقتها بنفسها، وتقول «معقولة أنا في يوم هابقى رُبع دول؟». أؤكد لها أن الطريق طويل لتصبح مثلهن. لكنه ليس مستحيلًا طالما آمنت بموهبتها، وواجهت الجميع بقوة وبسخرية من كلامهم. ترجع قوتها وثقتها في نفسها لأسابيع، وفجأة تنقطع عن الحضور للبروفات، وترفض إكمال المشوار الذي بدأته توًا. لنفس الأسباب، التنمر، وإضعاف عزيمتها بكلام مسموم.
لم يكتمل مشروع الراديو الذي خططنا له، لكن الاكتشاف الأهم بالنسبة لي كان صوت مونيكا. اقترحت عليها أن تغني لكنها رفضت، حاولت معها أكثر من مرة، لكن الرعب كان يتملكها وتهرب، حتى دفعتها الصدفة لفعل ذلك، عندما اعتذرت بطلة عرض جديد اسمه «الأوتوبيس» عن المشاركة قبل ثلاثة أيام فقط، من مهرجان مسرح بقصر ثقافة أسيوط.
لم يكن أمامي بديل سواها. تنطبق عليها مواصفات بطلة العرض، فمن المفترض أن صوتها جميل وتحلم بالغناء في القاهرة. لذا قررت وضعها أمام الأمر الواقع واخترتها لتكون بطلة العرض، ووضعتُ شرطًا وحيدًا، أن تغني بصوتها.
وعندما غنت مونيكا في أول بروفة لها كبطلة، أبهرت حتى زميلاتها اللاتي لم يكن يتخيلن أنها تملك صوتًا يصلح حقًا للغناء. وبعد هذا العرض، انطلقت مونيكا تغني في كل مكان دون توقف، في شوارع القرى ومراكز الشباب وقصور الثقافة في المنيا وأسيوط والقاهرة. وعرض تلو الآخر تتطور بسرعة، وأكتشف مناطق جديدة في صوتها.
تغيرت تمامًا، بعدما لاقت استحسان وإعجاب الغريب قبل القريب، فالجميع يسأل عن «البنت اللي صوتها حلو» في العرض. لم يكن كلامي أنا هذه المرة، كان رأي المعجبين في كل مكان نذهب فيه للعرض والغناء. وغالبًا نحن أبناء القرى والجنوب، في مقتبل عمرنا، نتحسس الثقة بأنفسنا وبموهبتنا وقدرها، عندما نلاقي إعجاب «بتوع مصر» (القاهرة).

من بعدها واجهت مونيكا من كان يتنمر عليها بابتسامة عريضة وعلا صوتها في الرد عليهم: «أيوة أنا أم صوت وحش بقيت بغني وعاجبة نفسي». وبدأت التدريب بجدية على الغناء، وبدأ صوتها يخرج واثقًا شجيًا وقويًا، تغني في العروض على المسارح، وفي عروض الشارع، وبدأت أيضًا تلحن كلمات نؤلفها للعروض لتغنيها. أصبح حلمها حقيقة، ولا ينتظر إلا التحقق الكامل.
تزوجت مونيكا هي الأخرى في سن الثامنة عشر وأنجبت، وتعطلت قليلًا. ظننتُ أنها ستكرر تجربة فتيات أخريات بدأن الحلم وتخلّين عنه، لكن بعد 5 سنوات حدث ما كان مكافأة لها ولموهبتها النادرة، مع فيلم «رفعت عيني للسما»، وقد استجابت السماء هذه المرة.
_____________________________