In In Arabic - بالعربي

مدى مصر ـ

لا يميز كنيسة القديسة دميانة عن المنازل المجاورة لها في حي إمبابة سوى صلبان على نوافذها وكشك أمني وسور حديد يحيط بمبناها. قبل الصلاة، حضرت مئات الأسر بأطفالهم حتى امتلأت الكنيسة ولم يتبقَ موضعًا لقدم، بينما انشغل القس غايوس بخيت بجولة في طوابق المبنى للاطمئنان على سلامة الوصلات الكهربائية للمكيفات، وأن جميع حنفيات الإطفاء تعمل بكفاءة. هذا الحرص الشديد نبع من مخاوف تكرار الحريق الذي اندلع على بُعد أربعة كيلومترات في كنيسة الشهيد فيلوباتير مرقوريوس أبي سيفين، في 14 أغسطس الماضي، بعد اشتعال مولد كهربائي داخل الكنيسة، ما تسبب في وفاة 42 شخصًا أثناء الصلاة، بينهم 15 طفلًا، بحسب بيان النيابة العامة.

لا يختلف حال كنيسة القديسة دميانة عن كنيسة أبي سيفين، كلتاهما كانتا في البدء منزلًا سكنيًا تحول إلى كنيسة. يقول القمص هدرا مكرم، راعي كنيسة دميانة، لـ«مدى مصر»، إن الكنيسة أسسها القمص باخوم متّى عام 1995، كانت في البداية مجرد شقة سكنية في المنزل قبل شرائه بالكامل، وأُسست دون تصريح. «كان من أصعب ما يكون في تلك الأيام أن تبنى كنيسة، أو حتى تجري لها أي إصلاحات أو ترميم»، يقول.

وقتها كان رئيس الجمهورية وحده من يملك حق الموافقة على تصريح بناء الكنائس، وكان يحكم قراره بالموافقة عشرة شروط موضوعة منذ عام 1934، ومنها عدد أفراد الطائفة، والمسافة بين موقع الكنيسة الجديدة وأقرب كنيسة للطائفة، وضوابط أخرى طائفية مرتبطة بموقع الكنيسة من المساجد والأضرحة، وما إذا كان وجودها بين منازل مسلمين يشكل مانعًا لبنائها. مثلًا: «عند إنشاء الكنيسة اعترض بعض الجيران المسلمين وقدموا بلاغات إلى الشرطة اشتكوا فيها من الإزعاج الذي تسببه الترانيم»، يقول مكرم. ترى دراسة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن هذه الشروط كانت «أقرب إلى منع بناء الكنائس منها إلى الإتاحة، لذلك اضطر المسيحيون إلى إقامة الكنائس في شقق سكنية للصلاة لممارسة شعائرهم».

«تخدم كنيسة دميانة حوالي ألف أسرة تقريبًا، ويأتي كل رب أسرة إلى الكنيسة ومعه زوجته وأطفاله»، بحسب القس غايوس. يقول القمص هدرا: «يحضر القداس 1200 شخص، في حين أن المبنى بالكامل لا يتحمل سوى 800 فرد»، مضيفًا أن «المبنى غير مناسب لدخول المصلين وخروجهم بسلاسة، ولا تتوافر فيه جميع إجراءات الأمن والسلامة. بُنيت تلك الكنائس دون مراعاة أنها ستستقبل هذا العدد من المصلين، بحكم صعوبة ظروف البناء وقتها». 

تغيرت الاشتراطات، وأقرت الدولة قانونًا لبناء الكنائس وترميمها في 2016، وشكلت لجنة لتقنين الأوضاع، ولكن هذا لم يغير من الواقع شيئًا. كنيسة أبي سيفين وكنائس عدة في إمبابة، تستقبل أعددًا كبيرة من المصلين يوميًا دون أن تكون مؤهلة لذلك، ليكون حادث «أبي سيفين» مؤشرًا على ما أنتجه المنع لسنوات طويلة، كنائس بُنيت في أماكن ضيقة غير مجهزة، وليست قادرة على أن تستوعب الزيادة في الأعداد وسط منطقة غير مخططة وغير منظمة، بحكم الأمر الواقع.

يعد إمبابة واحدًا من أقدم الأحياء السكنية وأكثرها كثافة في محافظة الجيزة، يسكنها أكثر من 644 ألفًا، يعيشون على مساحة تزيد قليلًا عن ثمانية كيلومتر مربع، بحسب إحصاء للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام 2018. لا يوجد إحصاء دقيق مُعلن لعدد المسيحيين منهم، كما هو الحال مع إحصاء عدد المسيحيين في مصر المختلف عليه بين الكنيسة التي تقدرهم بـ15 مليون، بحسب تصريحات البابا تواضروس في 2018، وتصريحات حكومية تراهم أقل من ذلك. بحسب موقع الأنبا تكلاهيمانوت الذي يوثق تراث الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية، فإن حي إمبابة يوجد به 11 كنيسة فقط، خمسة منها جرى توفيق أوضاعها بعد إقرار قانون ترميم وبناء الكنائس عام 2016.

بعيدًا عن إمبابة بعشرات الكيلومترات، وفي مساحات ذات كثافة سكانية أقل، شيّدت الدولة 57 كنيسة في المدن الجديدة خلال السنوات القليلة السابقة، برر الرئيس عبد الفتاح السيسي تلك الخطوة بقوله: «عشان ميجيش المواطن ويقول أعمل الشقة دي كنيسة». لكن الحال ظل كما هو في الأحياء القاهرية القديمة التي تتمركز فيها أغلب الكثافات السكانية. 

حتى يناير 2022، وافقت الدولة على تقنين أوضاع 2162 كنيسة مخالفة من أصل أكثر من خمسة آلاف كنيسة قدمت طلبات التقنين، وطالب رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولي، بالتزام الكنائس الحاصلة على التقنين بتنفيذ اشتراطات الحماية المدنية، وذلك بعكس قانون البناء الموحد الذي يشترط توفير الحماية المدنية قبل الحصول على الترخيص. يوضح إسحاق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن لجنة التقنين لم تعلن عن أي عقوبات على غير الملتزمين. فقط، نصت على إمهال الكنائس المقننة أربعة أشهر لتنفيذ اشتراطات السلامة، وإذا لم تنفذها تمهلهم أربعة أشهر أخرى. 

لذلك، بحسب إسحاق، هناك عدة كنائس، مثل كنيسة أبي سيفين، سُمح بتقنينها رغم أن مشكلة تكدس المصلين بها لم تُحل واشتراطات الأمن والسلامة لم تنفذ، رغم نص المادة الثانية من القانون بوضوح على «مراعاة أن تكون مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها على نحو يتناسب مع عدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحيين في المنطقة، مع مراعاة معدلات النمو السكاني».

على ناصية إحدى الحارات الضيقة في حي إمبابة، يظهر بالكاد من بين الملابس المنشورة على بلكونات البيوت برج كنيسة القديس مار مرقس الرسول وصليبها. في الداخل، خيّم الهدوء على أرجاء الكنيسة بعد صلاة باكر، ولكن ظلت حرائق الكنائس المتتالية تشغل بالهم، خصوصًا بعد اشتعال النيران في كنيسة الأنبا بيشوي بالمنيا في اليوم التالي مباشرة لحريق كنيسة أبي سيفين. وقف القمص السبعيني، مرقس رمزي، كاهن الكنيسة، على المذبح. وبعد الصلاة أخذ يتلو تعليمات السلامة والأمان خلال الحرائق، يحذر المصلين من مغبة التدافع إذا اشتعلت النيران بالكنيسة، كما حدث في كنيسة أبي سيفين، ويوصيهم بالتروّي.

ربما يختلف الوضع داخل كنيسة مار مرقس عنه في «أبي سيفين». هنا المساحة أرحب وعدد المقاعد أكبر. مكان الصلاة يتسع للمصلين كافة، بحسب رواية القساوسة، ويعتلي الكنيسة برج كبير يحمل صليبًا ضخمًا وقبة كبيرة، لكن من الخارج، تتشابه الكنيسة مع أوضاع الكنائس الأخرى، جميعها تحت حصار مبانٍ غير مخططة، تكدست على أسطحها أكوام من الأخشاب والنفايات، ومحاطة بشوارع ضيقة لا تكفي سوى للترجل. يفسر أحد القساوسة، الذي فضل عدم نشر اسمه، ذلك بـ«قِدم الكنيسة التي يعود تاريخ إنشائها إلى قبل 52 عامًا».

يقول القس إن الكنيسة تستوفي إجراءات السلامة: لديها خزان مياه على سطح المبنى، وحنفيات حريق، وسلم طوارئ، ولكنه يرى أن ما يحيط بالكنيسة هو الأزمة الحقيقية، فالطريق من أقرب محطة إطفاء في شارع المطار (أحد شوارع إمبابة الرئيسية) يكاد يكون مغلقًا، ودخول سيارة مطافي ضخمة من الشوارع المجاورة للكنيسة مهمة مستحيلة. 

يعد حي شمال الجيزة، التي تقع في نطاقه منطقة إمبابة، ضمن الأحياء التي تصنفها الدولة «مناطق غير مخططة»، وهي حسب تعريف صندوق تطوير المناطق العشوائية والمناطق الآمنة، التي لم تنشأ باستخدام أدوات التخطيط العمراني السليم. وتستقر «مارِ مرقس» في حارة صغيرة بين شارعي الجامع والأسيوطي، وكلاهما سوق عشوائية مفتوحة تعج بالأرفف الخشبية للباعة الجائلين، تحتل نصف الشارع وتحاصر النصف الآخر، والجزء المتبقي يكفي للمارة أو سيارة صغيرة. «الشوارع الضيقة موجودة من زمان، ومكنش فيه مشكلة، لكن الأزمة الحقيقية هي إهمال مسؤولي الأحياء وتركهم الباعة الجائلين يحتلون الشوارع»، يقول القس.

أمام الكنيسة، علق أحد الأشخاص لافتة سوداء مكتوبًا عليها الآية القرآنية «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

بلغت شهرة إمبابة ذروتها في التسعينيات كأرض معركة بين الدولة وجماعات الإسلام السياسي، وعاشت إمبابة سنوات بوصمة التطرف والفقر والعنف والعشوائية، بداية بجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين وجماعة التبليغ والدعوة، وانتهاءً بالجماعة الإسلامية الأكثر عنفًا، بحسب كتاب «تنافس في القاهرة: الحوكمة، والفضاء الحضري، والحداثة العالمية». وظهر تأثير الجماعات الإسلامية في العمران في مسميات الشوارع والمساجد، «الإيمان» «الدعوة» «الاعتماد»، التي لم تكن مسميات تقليدية للمساجد في السابق، سواء في إمبابة أو في الصعيد أو في أي مكان آخر. 

بين 8 و9 ديسمبر 1992، حوصرت إمبابة من 16 ألف فرد أمن يقودهم ألف ضابط، في واحدة من أكبر عمليات التمشيط الأمني في تاريخ القاهرة، بحسب وصف الباحث إريك دينيس. كانت هذه الواقعة من المحطات الهامة في تاريخ تعامل الدولة مع العمران اللارسمي، وتحركها بدافع إحكام السيطرة الأمنية على المناطق التي اعتبرت مأوى للخصوم السياسيين الأساسيين في التسعينيات من أبناء التيار الإسلامي، ورسمت سياسات وخطط الدولة على مدار العقدين التاليين تجاه ما اصطلح على تسميته بالعشوائيات.

استمر الوضع حتى بعد ثورة 25 يناير 2011، حين تجدد هجوم الجماعات الراديكالية السلفية على منازل الأقباط في إمبابة، على خلفية إشاعة أن فتاة قبطية أسلمت والكنيسة تحتجزها، وأودت المواجهات بحياة 13 شخصًا. 

في أقصى شرق منطقة إمبابة بـ«الكيت كات»، وعلى مقربة من نهر النيل، تظهر كنيسة مارِ جرجس بقبابها البيضاء وصلبانها الضخمة، لا يفصل بينها وبين النهر سوى صف واحد من المنازل القديمة وورش إصلاح السيارات. الكنيسة هنا لا تقف عند كونها مكانًا للصلاة، ولكن تحتوي على حضانة ومركز لتقوية الطلاب وعيادات طبية، «كل حاجة بتحتاجها المنطقة بتقدمها الكنيسة، ومش للمسيحيين وحدهم، لكن لكل المنطقة مسيحي ومسلم»، يقول قس، لم يفضل نشر اسمه.

يعود تاريخ إنشاء كنيسة مارِ جرجس إلى العام 1947، بحسب القس، الذي يقول إن «الكنيسة هنا مختلفة عن كنائس الشقق والمنازل الصغيرة، هي من البداية تأسست كنيسة، بها سلم طوارئ، ومساحة مكان الصلاة تصل إلى 400 متر، في حين مساحة مكان الصلاة في ‘أبي سيفين’ كانت 60 مترًا» ويؤكد: «في الأربعينيات كان سهل تبني كنيسة، ماكانش فيه إرهاب ولا متطرفين يهاجموا أي حد يحاول يبني كنيسة»، ولكن في الوقت نفسه لم يقنن وضع الكنيسة حتى الآن، بسبب الاشتراطات العشرة للموافقة على بناء الكنائس الموضوعة منذ عام 1934، والتي سميت بشروط «القربى باشا» نسبة إلى وكيل وزير الداخلية وقتها.

ويفسر ذلك، كمال زاخر، الناشط القبطى: «قبل ثورة 1952 بُنيت الكثير من الكنائس دون ترخيص» ويدلل على ذلك: «القمص سرجيوس كان خطيب ثورة 19 بنى كنيسة في وسط البلد دون ترخيص وظلت عشرات السنين دون ترخيص». ويؤكد: «وقتها كان هناك مساحات واسعة في القاهرة تقدر تبني كنيسة بسهولة، والتيار الإسلامي لم يكن يهتم بأمر المسيحيين ولا كنائسهم ولا تشغل باله من الأساس».  

ولكن الأمر ازداد تعقيدًا بعد فترة الأربعينيات، وخاصة بعد ظهور الجماعات المتطرفة والإرهاب في السبعينيات، وما مثّله من ضغط على الدولة والمسيحيين معًا: «لا قادر تبني كنيسة بترخيص ولا دون ترخيص»، يقول القس. وتسبب ذلك في تحايل المسيحيين على تلك الضغوط ببناء كنائس سرية في المنازل والشقق، في محاولة لتفادي رفض الجماعات الإسلامية لذلك، وهجومها المتكرر على الكنائس.

يضيف القس: «الكنيسة هنا وقت ما اتبنت كانت قادرة تستوعب الأعداد، لكن دلوقتي مع الزيادة السكانية مبقتش تستوعب، إحنا بنتكلم عن 75 سنة». الآن مفترض أن تخدم 1200 أسرة مسيحية يسكنون في نطاقها، يحضر 10% منهم فقط قداس الأحد، حيث لا تكفي مقاعد الصلاة سوى 300 فرد فقط»، ويؤيده في ذلك قساوسة آخرون شاركوا في الحديث. ومع ذلك، لم يشفع تاريخ بنائها في تقنين وضعها، حيث لا تزال تنتظر الإجابة على طلب التقنين منذ 2018.

رغم أن لجنة تقنين أوضاع الكنائس وافقت على ترخيص بعض المنازل والشقق التي تحولت إلى كنائس، إلا أنها لم تعلن إلى الآن اسم كنيسة مارِ جرجس بين الكنائس المقننة. يرجع إسحاق إبراهيم السبب في ذلك إلى أن اللجنة لم تعلن آلية اختيار الكنائس وأولوياتها، واصفًا الأمر بـ«عدم الشفافية».

________________

https://mada32.appspot.com/www.madamasr.com/ar/2022/08/24/feature/سياسة/كنائس-إمبابة-حُكم-الأمر-الواقع/?fbclid=IwAR3W4Zy_at1h0_jJRrmR_4oo4YhX7ZyNsDoq5iNQXE0rdLnEpdXsIKTXa1Y
Recent Posts

Leave a Comment