In In Arabic - بالعربي

د. مينا بديع عبد الملك ـ وطني ـ

كتاب من القطع المتوسط يقع في 470 صفحة يتناول اللغة القبطية منذ نشأتها، ويدرس أسباب أفولها، ثم الجهود المخلصة التي تمت منذ القرن التاسع عشر. الكتاب يحتوي على أربعة أبواب: رؤى في نشأة اللغة القبطية وأسباب أفولها ـ جهود إحياء اللغة القبطية في العصر الحديث ـ دراسة في نطق القبطية واستعمالها ـ الخلاف على النطق الكيرلسي.

الكتاب يُعد واحداً من أهم مراجع اللسان المصري القبطي الذى يُعد آخر مراحل هذه اللغة المُقدسة «ميدو ـ نتر» – أي «الكلام الإلهي»، وقد ترجمه اليونانيون حرفياً بـ «الهيروغليفي» هيرو أي مقدس أو إلهى، جليفوس أو غليفوس أي كتابة أو كلام)، فهو بهذا موسوعة تاريخية لغوية كنا في أشد الاحتياج إلى مثل هذا العمل المتكامل التاريخي في عصرنا الحاضر.

«الأقباط» هو اسم الشعب المصري منذ أن كانت عاصمته «منف»، واللغة القبطية جزء لا يتجزأ من تاريخه وحضارته وثقافته وهي المرحلة الأخيرة من تطور اللغة المصرية القديمة، وبهذا تكون أقدم لغة في العالم قاطبة. لذلك يجب على الأقباط – بصفة خاصة، والمصريون جميعاً بصفة عامة – أن يفتخروا بلغتهم وأن يجاهدوا في إحيائها، فهي ليست لغة دينية بل لغة حياة يومية.

أسس محمد على قواعد الدولة الحديثة وكان أحد ركائزها التعليم. وساهم البابا كيرلس الرابع (1816 – 1861) البطريرك 110 – والذي يحمل لقب «أبو الإصلاح» – في تطور تعليم الأقباط بإنشاء مدارس للبنين والبنات. كما أعطى اهتماما صادقاً لإحياء اللغة القبطية، فكانت إحدى اللغات التي كان يتم تدريسها بمدارس أبى الإصلاح بجانب العربية والإنجليزية، والفرنسية والإيطالية والتركية.

أهتم المؤلف، في سياق حديثه عن اللغة القبطية، بأن يبرز أقوال وكتابات العددين في اللغة القبطية:

١ـ  البابا كيرلس الرابع البطريرك 110 في رسالته البابوية عام 1854 قال: «هناك شعوب بدائية في أفريقيا تحافظ على لغاتها، فكم أحرى بالأقباط أن يحافظوا على لغتهم».

٢ـ  البابا كيرلس السادس البطريرك 116 في حديث شخصي مع مجموعة المهتمين باللغة القبطية بالإسكندرية قال لهم: «إن الكتاب المقدس يأمرنا بالحفاظ على تسليم الآباء وتقاليد الرسل. حيث إن اللغة القبطية هي لغة الكنيسة المصرية ولذلك سُميت بالكنيسة القبطية المصرية». ومن المعروف عن البابا كيرلس السادس أنه كان يحرص أن يتلى معظم صلوات القداس باللغة القبطية، وكان يشجع تدريس اللغة القبطية، وكان يحث الكهنة على استخدامها بكثرة في الصلوات الكنسية.

٣ـ البابا شنوده الثالث البطريرك 117 قال بجريدة روز اليوسف بتاريخ 26 يناير 2009: «من العار أن تحافظ الكنيسة على هذه اللغة –اللغة القبطية – في عصور الاضطهاد والظلم وتُهمل فيها في عصور النور والحرية». ومن المعروف عن البابا شنوده الثالث أنه كان يتحدث بها بطلاقة وأتفان، حتى أنه في الفترة الأولى من بابويته كان يعلمها بنفسه للشعب في الاجتماعات الموسعة.

٤ـ الأب متى المسكين (1919 – 2006)، الأب الروحي لرهبان دير القديس مكاريوس بوادي النطرون، قال: «هل لدى أقباط زماننا الحالي من الإيمان والتكريس والمثابرة ما يمكنهم من النجاح في إحياء لغة أجدادهم المجيدة، التي هي واحدة من أجمل اللغات، في غاية الموسيقية، وأكثرها مهارة في تركيباتها اللغوية. ليس لدى المتيمين بحب مصر سوى أن يأملوا أن يحدث ذلك». ومن المعروف عن الأب متى المسكين أنه كان يجيد اللغة القبطية حتى أن الرسائل المتبادلة بينه وبين الأستاذ يسى عبد المسيح (1898 – 1959)، مدرس اللغة القبطية بقسم الآثار بجامعة عين شمس وأمين مكتبة المتحف القبطي بالقاهرة، كانت كلها باللغة القبطية.

٥ـ الأستاذ حبيب جرجس (1871 – 1951) مدير الكلية الإكليريكية ومؤسس مدارس الأحد، قال: «كم كنت أود أن أكتبه (أي تاريخ الأقباط الذي كتبته مسز بوتشر المؤرخة الإنجليزية) باللغة القبطية، التي كانت لغتكم وأنتم عبيد، ويجب أن تكون لغتكم الآن – تحت حكم أسرة محمد على – وأنتم أحرار».

٦ـ وولتر كرّم (1865 – 1944) مؤلف قاموس اللغة القبطية، قال: «من العار على شعب مثقف ذي تاريخ مجيد أن يجهل لغته وأن يقف منها موقف الغرباء».

٧ـ الدكتور حسين فوزي (1900 – 1988) في كتابه «سندباد مصري» قال: «لست أجد شعباً نظيرنا في العالم يتساءل عن أهمية احتفاظه بلغته الأصلية، وهي تراث الماضي ورباط الحاضر. إن اهمالنا للغة القبطية كان من أكبر العوامل التي عمل بها المستعمر الدخيل، فقضى على كل الفوارق التي كان لابد من بقائها لتكون سوراً يحمى كياننا من الانصداع ووحدتنا من التفكك».

يستعرض المؤلف باستفاضة كيفية التحول من الديموطيقية إلى القبطية فيقول:

هناك اتفاق شبه عام على أن تسمية اللغة المصرية في مرحلتها الأخيرة، بالقبطية راجع إلى تحوير العرب لاسم مصر باليونانية «ايجيبتوس Agyptos » لتصير «جبط» بعد حذف الحرفين الأولين (أ، ى) والأخيرين (و، س) من الاسم. واللغة المصرية تُعد من أقدم لغات العالم، وأطولها استخداما. وبالرغم أن الوثائق القبطية التي تعود إلى أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وتظهر فيها القبطية بخصائصها المميزة تجعل بعض علماء القبطية يؤرخون المرحلة القبطية من حوالى القرن الثالث الميلادي، إلا أن هذه المرحلة من تاريخ لغة مصر بدأت قبل ذلك بزمن طويل. ومن المهم إدراك أن مراحل اللغة المصرية، والتغيير في طرق الكتابة (هيروغليفية، هيراطيقية، ديموطيقية، قبطية) من طريقة إلى أخرى كانت عملية تدريجية، وعلى فترات طويلة تواجدت فيها كتابتان أو ثلاثة معاً. وبالنسبة لبداية اللغة القبطية، لا نخطئ القول أنها نشأت في القرن الثاني قبل الميلاد، كما كتب ألبرت جيسمان، وما سجله – وغيره – عن زيارة ملك من ملوك النوبة يُسمى «أوجرنافور» لأبيدوس، حيث نُقش على جدار أحد معابدها كتابة مصرية بحروف يونانية.

اللغة المصرية امتدت إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وهي المرحلة السابقة مباشرة للمصرية القبطية، فمن ثم تكون القبطية منبثقة من المصرية الديموطيقية. فالديموطيقية – التي تعنى «شعبية» – لم تكن لغة العامة لكنها كانت لغة أعمال أدبية ووثائق رسمية ونصوص دينية وتبادل رسائل، وبالتالي فهذه التسمية اليونانية غير دقيقة، لذلك فإن المصريين أطلقوا عليها اسم «خط الوثائق»، وسماها العالم السكندري «بنتينوس» في القرن الثاني الميلادي «كتابة الرسائل». ويرجع تاريخ أقدم وثيقة مكتوبة بالديموطيقية إلى السنة 21 من حكم الملك بسماتيك الأول (حوالي 643 قبل الميلاد)، وتأتى من الفيوم. وأهم مظاهر الديموطيقية صعوبتها الشديدة في شكل علاماتها الصوتية وتشابه الكثير منها، وغياب علامات الحركة وكتابتها بتشبيك مُعقد. وليس أدل على ذلك أن المصريين أنفسهم لجأوا إلى استخدام الحروف اليونانية التي كانت الكتابة بها أسهل بما لا يُقاس من الكتابة بالديموطيقية، وهذه كانت بشائر ميلاد المصرية القبطية.

ويجب التأكيد على أن التحول من الديموطيقية إلى القبطية لم يكن مجرد استخدام الأبجدية اليونانية التي تحوى حروفا متحركة، بالإضافة إلى سبعة حروف أساسية منتقاة من علامات الكتابة الديموطيقية، ثم تحوير نقشها لتكون متناسقة مع شكل الحروف اليونانية، ولكن نرى أيضاً طريقة كتابة القبطية من اليسار إلى اليمين مثل اليونانية، واختفاء ظاهرة العلامات ذات الصوتين وذات الثلاثة أصوات، والمخصصات التي هي علامات تساعد في فهم الكلمات دون أن يكون لها نطق، وكذلك دخول مفردات يونانية.

ثم يسجل المؤلف الوضع اللغوي السابق لدخول العرب مصر، فيقول:

كانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية السائدة في مصر في القرون الثلاثة السابقة للميلاد، أيام حكم البطالسة، واستمرت بعد ذلك تحت حكم الرومان، ثم البيزنطيين حتى القرن السابع الميلادي. ولم يقتصر الكلام باليونانية على اليونانيين، لكنه كان شائعا بين المصريين المتعلمين، بالإضافة بالطبع إلى كتابة معظم المستندات الرسمية به. هذا الوضع لم يكن فريدا في مصر، ولكنه شمل الكثير من البلاد التي كانت واقعة تحت الحكم المقدوني اليوناني. وقد حافظت اللغة اليونانية على وضعها المتميز في مصر وسائر بلاد المشرق التي كانت خاضعة للإمبراطورية المقدونية بعد نهايتها وسيطرة روما على بلاد الغرب والشرق معاً بما في ذلك اليونان نفسها. وكان على أهل روما المتعلمين الذين كانوا يتحدثون بلغتهم اللاتينية دراسة اليونانية بالإضافة إلى لغتهم اللاتينية.

وقد استمرت اليونانية كلغة تحدث اليونانيين والمصريين المتعلمين، وفى الأمور الإدارية والتجارية، وأيضاً في الكتابات المسيحية، بما في ذلك أسفار العهد الجديد من الكتاب المقدس وكتابات آباء الكنيسة الأولين في مصر في الثلاثة قرون الميلادية الأولى وبعدها.

ظل انتشار المسيحية في مصر خارج المدن الكبرى بطيئاً حتى تم تقنين وتعميم الحروف اليونانية وسبعة حروف من المصرية الديموطيقية في كتابة اللغة المصرية بالأبجدية القبطية. ثم أخذ وضع اليونانية يضعف نسبياً مع انتشار المسيحية بين عامة الشعب المصري، وتحرك الدور الثقافي من الأكاديميات اليونانية إلى الأديرة المسيحية، خاصة بعد المجهودات الهائلة التي قام بها الأنبا شنوده (346 – 465م) المعروف باسم رئيس المتوحدين، للنهوض باللغة والتراث القبطي ليحل محل التراث اليوناني. لذا يُعتبر الأنبا شنوده المؤسس الحقيقي للكنيسة القومية المصرية.

ثم يسجل المؤلف نماذج من المهتمين بإحياء اللغة القبطية منذ منتصف القرن 19 حتى وقتنا الحالي، ومنهم:

١ـ  البابا كيرلس الرابع (1853 – 1861م) البطريرك 110: كان يحث الأقباط على التبرع لبناء مدارس والعمل على إحياء اللغة القبطية، وقام باستيراد ثاني مطبعة في مصر من أجل طباعة كتب المدارس التي أسسها، كما أنشأ مدارس للبنات وعمل على تشجيع تعليمهن، لذلك أُطلق عليه لقب «أبى الإصلاح».

٢ـ إقلاديوس بك لبيب (1868 – 1918م): يطلق عليه المؤرخون لقب عميد الأدب القبطي، وكان أحد الذين تعلموا اللغة القبطية في مدارس «أبى الإصلاح»، وألف قاموساً في اللغة القبطية، ووضع أجروميات وكُتباً للترجمة فكانت من أوائل المحاولات الناجحة في التأليف في هذه اللغة.

٣ـ دكتور باهور لبيب (1905 – 1994م): كان أحد خريجي مدارس «أبى الإصلاح»، شغل وظيفة مدير المتحف القبطي، وقام بتدريس اللغة القبطية للعديدين من تلاميذه. وعندما توفيت شقيقة البابا شنوده الثالث ذهب د. باهور لبيب لتعزيته فقدم للبابا شنوده التعزية باللغة القبطية فكان رد البابا شنوده عليه أيضاً باللغة القبطية.

٤ـ الأستاذ يسى عبدالمسيح (1898 – 1959م): من أبرز أبناء الإكليريكية وأعمدتها، عُين أميناً لمكتبة المتحف القبطي وكان مُلما بأصول الفكر القبطي والتراث الكنسي، كان على معرفة كاملة باللغة القبطية بسائر لهجاتها، وقام بتدريس اللغة القبطية لطلاب قسم الآثار بكلية الآداب بجامعة عين شمس.

٥ـ  وولتر كرّم (1865 – 1944م): قام بنشر نحو 130 بحثاً في اللغة القبطية، كما أن قاموسه الشهير – الذى أنتهى من إعداده عام 1939 – يُعد مرجعاً أساسياً لكل دارسي اللغة القبطية، وفى عام 1931 اختير زميلاً للأكاديمية البريطانية.

٦ـ آرثر شور (1924 – 1994م): شغل منصب أستاذ المصريات بجامعة ليفربول بإنجلترا، كان متخصصاً في كتابات الأنبا شنوده رئيس المتوحدين في اللغة القبطية باللهجة الصعيدية.

***

لقد بذل المؤلف مجهوداً شاقاً في إعداد هذا الكتاب الذي صدر في ذكرى مرور 152 على وفاة «أبى الإصلاح» البابا كيرلس الرابع. إن مصر تمر بمرحلة تغير جوهري في تاريخها الحديث، وعلى المصريين جميعاً أن يعملوا بجدية على إحياء لغة الأجداد، ويساعد هذا الكتاب على المضي قُدماً نحو الطريق السليم.

________________

Recent Posts

Leave a Comment