محمد سعد عبد الحافظ ـ مدى مصر ـ
رغم أن مصر لها تاريخ سيئ مع حرية الصحافة، ومع أنها من الدول التي يتم تصنيفها باعتبارها «الأكثر حبسًا للصحفيين»، إلا أن الأحكام التي صدرت قبل أيام من محكمة جنح أمن الدولة طوارئ ضد صحفيين وسياسيين بسبب إبدائهم الرأي في قضايا وموضوعات عامة هي الأكثر قسوة منذ أن بدأ القضاء المصري في نظر قضايا النشر والعلانية قبل أكثر من 100 عام.
فعندما نشر الشيخ علي يوسف، مالك ورئيس تحرير جريدة «المؤيد»، وثائق تثبت هزيمة جيش الاحتلال البريطاني على يد دروايش المهدية في السودان عام 1896، أُلقي القبض عليه وأُحيل إلى النيابة العامة إثر اتهامه بـ«إفشاء أسرار عسكرية».
تمسك الشيخ علي يوسف خلال التحقيق معه في النيابة بحقه في عدم الكشف عن مصدره، مؤكدًا أن ما جاء من معلومات في سلسلة التقارير الصحفية التي نشرتها «المؤيد» صحيح وموثوق، وفي نهاية التحقيقات أوصى وكيل النيابة محمد بك فريد بحفظ التحقيق لعدم وجود أدلة كافية على إدانته، إلا أن النائب العام الإنجليزي أمر بإحالته إلى المحكمة.
بدأت محكمة جنح عابدين في نظر القضية، أصدر رئيس الدائرة حكمه ببراءة الشيخ علي يوسف الذي «مارس حقه في نقل الأخبار إلى الرأي العام وانتقد مشاركة جنود مصريين ضمن الحملة الإنجليزية على السودان لـ«يلقوا حتفهم هناك بعد تفشي الأمراض والأوبئة».
بعد تلك الواقعة بأكثر من عشر سنوات، هاجمت جريدة «القُطر المصري» لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ أحمد حلمي، نظام حكم الأسرة العلوية، التي لم تستفد مصر منه «غير الشقاء والبلاء والظلم والضنك والديون وضياع حقوقها في قناة السويس ووقوعها تحت الاحتلال»، بحسب ما جاء في إحدى المقالات المنشورة بالجريدة.
وجاء في المقال أن أسرة محمد علي «جنت على مصر.. وأن الأمة المصرية إن لم تأخذ الدستور عطاءً أخذته قسرًا»، فتم استدعاء أحمد حلمي رئيس التحرير بعد نشر هذا المقال إلى النيابة العامة، واتُهم بـ«التطاول على نظام الحكم، والعيب في الحضرة الفخيمة الخديوية، والدعوة إلى قلب نظام الحكم وإثارة الرأي العام على الخديوي عباس حلمي الثاني».
أحيل حلمي إلى محكمة السيدة زينب الجزئية، وصدر ضده حكم بسنة سجن وعشرة جنيهات غرامة وتعطيل جريدته لمدة ستة أشهر. وبعد ستة أشهر أُفرج عن حلمي بعد قضائه ثلاثة أرباع المدة، فكتب في 23 أكتوبر 1909 في «القُطر المصري» بعد عودتها للصدور: «حرية الكتابة والخطباء، وعدالة الإدارة والقضاء، واحترام الأقوياء حقوق الضعفاء، إنها سبيل الأمم إلى السعادة والارتقاء».
وفي قضية مشابهة أحيل النائب البرلماني الأديب الكبير محمود عباس العقاد إلى المحاكمة بتهمة «العيب في الذات الملكية والطعن في صاحب العرش»، بعد أن هدد في إحدى جلسات البرلمان بـ«سحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته».
وبعد عدد من الجلسات أصدرت محكمة الجنايات حكمها عام 1930 بحبس العقاد تسه أشهر، قضاها معززًا مكرمًا في سجن مصر العمومي، يستقبل في زنزانته وزراء وكُتاب ويُسمح له بدخول خادمه بالطعام والعلاج والكتب والصحف وأوراق وقلم للكتابة، وخرج بعدها بطلًا مناضلًا في سبيل الدفاع عن الحرية والدستور، لتفتح له الصحف ودور النشر أبوابها.
صدرت الأحكام المشار إليها سلفًا في قضايا نشر، ومصر واقعة بين مطرقة حكم أسرة محمد علي وسندان الاحتلال الإنجليزي، ورغم أن الاتهامات التي لاحقت أصحابها تضمنت «إفشاء أسرار عسكرية، والدعوة إلى قلب نظام الحكم، والعيب في الذات الملكية»، إلا أنها تراوحت بين البراءة كما في قضية الشيخ علي يوسف، والحبس سنة كما في قضية الأستاذ أحمد حلمي.
لم تكن مصر في تلك الفترة قد عرفت نصوصًا دستورية ولا قانونية تمنع الحبس في قضايا النشر، ومع ذلك كانت المحاكم تراعي عند إصدارها أحكامًا في قضايا النشر والعلانية أن المتهمين صحفيون وكتاب وأصحاب رأي ولا يجوز تشديد العقوبة عليهم بسبب ممارستهم حقهم في الإخبار أو إبداء الرأي.
الآن وبعد نحو قرن، ورغم وجود نص دستوري وآخر قانوني يحظران توقيع العقوبات السالبة للحرية فى الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، إلا أن محكمة جنح أمن الدولة طوارئ حكمت على الزميلين الصحفيين حسام مؤنس وهشام فؤاد والمحامي زياد العليمي وآخرين بالحبس مدد تتراوح ما بين ثلاث سنوات إلى خمس سنوات في قضايا نشر واضحة لا تحتمل اللبس.
المجموعة التي صدرت ضدها الأحكام أُلقي القبض عليها قبل عامين، في قضية المعروفة باسم «تحالف الأمل»، ذاك التحالف الانتخابي الذي سعى المتهمون إلى تأسيسه من عدة أحزاب ومجموعة شخصيات عامة لخوض معركة انتخابات البرلمان السابقة تحت مظلته.
أُحيل المتهمون إلى نيابة أمن الدولة العليا التي قررت بدروها حبسهم احتياطيًا، بعد اتهامهم بارتكاب جرائم «الاشتراك مع جماعة أنشئت على خلاف أحكام القانون، لغرض الدعوة لتعطيل أحكام الدستور والقوانين، ومنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها، ونشر أخبار ومعلومات وبيانات كاذبة بقصد تكدير السلم العام وزعزعة الثقة في مؤسسات الدولة».
ورغم انتهاء فترة الحبس الاحتياطي، وبعد أكثر من عامين، أحالت النيابة في يونيو الماضي المجموعة في بعض التهم وليس كلها إلى محكمة جنح أمن الدولة على ذمة قضية أخرى، وتضمن قرار الإحالة تهمة «الإيحاء للرأي العام بفشل قناة السويس الجديدة، والإيحاء للرأي العام العالمي باضطهاد أهالي النوبة»، وذلك في مقالين كتبهما المحامي زياد العليمي قبل خمس سنوات، و«كان من شأن ذلك إضعاف الدولة، والإضرار بمصالحها القومية، والتأثير على مركزها الاقتصادي، وتكدير السلم العام، وإلقاء الرعب بين الناس»، بحسب ما جاء في قرار الإحالة.
أما الصحفي حسام مؤنس، فقد تضمن قرار إحالته للمحاكمة أنه نشر على وسائل التواصل الاجتماعي أخبارًا كاذبة، ادعى فيها وجود معتقلين في السجون، وذلك بغرض الإيحاء للرأي العام بوجود انتهاكات لحقوق المواطنين في مصر، وانتهاك العاملين في وزارة الداخلية للقانون. بينما أُسند للصحفي هشام فؤاد، أنه أوحى في حديث مصور عام 2016 للرأي العام العالمي بعدم شرعية مؤسسات الدولة المصرية، وكان من شأن ذلك أيضًا إضعاف هيبة الدولة، وإضعاف الثقة المالية فيها، والإضرار بالمصالح القومية.. إلخ.
أصدرت المحكمة قبل أيام تلك الأحكام الصادمة التي نسفت محاولات الدولة لتحسين صورتها في ملف الحقوق والحريات، فالقرائن التي اعتمدت عليها المحكمة لا تعدو كونها آراء هاجم فيها المتهمون أداء السلطة التنفيذية، وانتقدوا ما يرونه إهمالًا أو تقصيرًا أو تجنيًا على للحقوق، وهذا النقد بحسب نصوص الدستور والمواثيق والعهود الدولية التي وقعت عليها مصر حقًا من حقوق الإنسان لا يجوز محاسبته عليه.
قبل أسابيع أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وأكد خلال احتفالية إطلاقها التزام الدولة المصرية باحترام وحماية الحق في السلامة الجسدية، والحرية الشخصية والممارسة السياسية وحرية التعبير وتكوين الجمعيات الأهلية، مشيرًا إلى أن الدولة ترحب بـ«تعدد الآراء، بل واختلافها، ما دامت تراعي حريات الآخرين، وتهدف من خلال نقد بناء وتشاركي إلى تحقيق ما هو أفضل لصالح مصر وشعبها».
لا تختلف بنود الاستراتيجية كثيرًا عما جاء في باب الحقوق والحريات بدستور 2014، إلا أننا يمكننا أن نتعامل معها باعتبارها وثيقة إبداء حسن نوايا وإعلان جديد من السلطة بأنها ملتزمة باحترام وتنفيذ نصوص الدستور.
أكدت تلك الاستراتيجية على أن الحقوق والحريات اللصيقة بالإنسان لا تقبل تعطيلًا ولا انتقاصًا، «لا يجوز وضع قيود على ممارسة الحريات»، كما أشارت إلى وجود خلل في مستوى المشاركة في الشأن العام وضعف التفاعل الحزبي.
المجموعة التي صدرت في حقها الأحكام المشار إليها، لم تمارس سوى حقها الدستوري والقانوني في إبداء الرأي وانتقاد السلطة وطرح أفكار مختلفة حول قضايا الشأن العام، كما مارسوا حقهم في المشاركة السياسية وعملوا على تأليف تحالف انتخابي لخوض الانتخابات البرلمانية، فنالوا جزائهم نظير ذلك تلك الأحكام غير المسبوقة في التاريخ المصري.
في عام 2008، أدانت محكمة جنح مستأنف القاهرة، الزميل الصحفي إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة «الدستور» حينها، وأصدرت بحقه حكم بالسجن شهرين بتهمة نشر أخبار غير صحيحة عن صحة رئيس الجمهورية آنذاك حسني مبارك.
وقبل أن يتم تنفيذ الحكم، أصدر مبارك قرارًا جمهوريًا بالعفو عن عيسى، ووجه وزيري الداخلية والعدل لتنفيذ القرار كلٌ في ما يخصه، وفقًا لبيان نشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط حينها.
الوكالة قالت في البيان إن قرار الرئيس يأتي تأكيدًا لـ«رعايته لحرية الرأي والتعبير والصحافة وحرصه على أن ينأى بنفسه -كرئيس للجمهورية – عن أن تكون له أية خصومة مع أي من أبناء مصر».
أما جريدة «الدستور» فاعتبرت في بيان نشرته في العدد التالي أن قرار العفو يشير إلى إدراك الرئيس خطورة الحكم على صحفي بالسجن لمجرد أنه أدى مهمته الصحفية بالصورة التى يمليها عليه ضميره، مشيرةً إلى أن القرار «صحح خطأ ما كان له أن يقع»، وطالبت باستئصال القوانين المقيدة لحريات الصحافة من جذورها.
يمنح قانون الطوارئ الذي أُحيلت على أساسه قضية «مجموعة الأمل» إلى المحاكمة، لرئيس الجمهورية الحق في إلغاء العقوبات الصادرة من محاكم أمن الدولة طوارئ أو تخفيفها أو وقف تنفيذها، الرأي العام ينتظر من الرئيس السيسي «تصحيح خطأ ما كان له أن يقع» إنفاذًا لنصوص الدستور والقانون التي حظرت الحبس في قضايا النشر، وأن يبادر بإلغاء تلك الأحكام، كما ينتظر خطوة أخرى تأخرت كثيرًا من البرلمان وذلك بإعادة النظر في المواد السالبة للحريات في قضايا النشر بالقوانين المختلفة.