باتريك جورج ـ درج ـ
ملاحظة: باتريك زكي الباحث المصري وطالب دراسات عليا بجامعة بولونيا بإيطاليا كتب في ٩ يوليو ٢٠١٩ المقال أدناه عن الحياة كمسيحي في مصر. في فبراير ٢٠٢٠ تم القبض عليه في مطار القاهرة عند مجيئه في زيارة، وتم حبسه حتى الآن. اليوم يقف باتريك أمام محكمة أمن الدولة طوارىء (التي أحكامها غير قابلة للاستئناف أو الطعن) بتهمة «نشر اخبار كاذبة» بسبب هذا المقال الوحيد. الجلسة القادمة في ٢٨ سبتمر
***
لا يمر شهر إلا وتقع حوادث أليمة بحق أقباط مصر من محاولات تهجير في الصعيد إلى عمليات خطف وإغلاق كنيسة أو تفجير أخرى. هذه المقالة هي محاولة رصد بسيط لأحداث أسبوع واحد من يوميات مسيحيي مصر…
لا يمر شهر على مسيحيي مصر، إلا ويقع 8 إلى 10 حوادث أليمة، من محاولات تهجير في الصعيد إلى عمليات خطف وإغلاق كنيسة أو تفجير أخرى، وقتل مسيحيّ ما، ينتهي الأمر بأنه كان “مختلاً”.
هذه المقالة هي محاولة رصد بسيط لأحداث أسبوع واحد من يوميات مسيحيي مصر، أسبوع واحد يكفي لإدراك حجم المحنة التي تطوقهم…
في أول أيام عيد الفطر الماضي، شهدت مصر عملاً إرهابياً ضخماً، راح ضحيته أربعة عشر مصرياً من القوات النظامية بمختلف رتبهم في الشرطة والجيش. وإذ لم يذكر أي اسم لأي مجند مسيحي، نفاجأ بأخبار جنازة عسكرية في مسقط رأس أحد الجنود المصريين المسيحيين، وهو المجند أبانوب مرزوق من قرية بني قرة التابعة لمركز القوصية بأسيوط.
كتبتُ تدوينة، أسألُ فيها عن أسباب هذا التعتيم حول اسم أبانوب، فواجهتُ كمّاً من الهجوم من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً من الصحافيين المصريين، الذين أكدوا أن تلك الأمور “عادية”، لأن القوات المسلحة لا تنشر أسماء من يستشهدون في حوادث إرهابية في سيناء لأسباب أمنية تخص الروح المعنوية للقوات هناك. كل تلك الضغوطات دفعتني إلى حذف التدوينة. قلتُ إنني ربما أسأت الظن، وليس في الأمر شبهة عنصرية، واعتذرتُ للزملاء عن هذا المنشور.
بعد ساعات، انتشرت أخبار مشكلات محتدمة في مسقط رأس المجند أبانوب مرزوق، لأن أهالي المدينة التي قررت القوات المسلحة أن تطلق اسمه على إحدى مدارسها، منعوا تنفيذ هذا القرار بشكل حاسم، لأن المجند “مسيحي”. لم يسلط الإعلام المصري الضوء على القضية بما يكفي، لكن عدداً من الصحافيين والنشطاء المسيحيين سجّلوا اعتراضهم.
نادر شكري وهو صحافي مهتم بالشأن المسيحي في مصر، كتب: “سكرتير محافظ بيقول لشقيق شهيد ابانوب ناجح لو أنا جاي فرح انقط بـ10 جنيه متقوليش انقط بـ100 جنيه. ده رده على رفض شقيق شهيد وضع الاسم على كوبرى اللي هو مجرد معدية بيمر على ترعة”، لافتاً بذلك إلى أن تلك اللافتة لا تتناسب مع قيمة تكريم جندي سقط في حادث إرهابي. ثم علق إسحاق ابراهيم الباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في “فيسبوك”: “اللي رفض إطلاق اسم أبانوب على مدرسة لا إخوان ولا سلفي ولا متشدد ولا يحزنون. خليك شجاع وقول إنه مسؤول في الدولة لديه قناعات تمييزية تؤثر في قرارته. أي كلام لإلصاق التهمة بجماعات دينية هو تمييع للمسؤولية”. ثم أضاف: “محافظة أسيوط بعد انتقاد مسلكها في عدم وضع اسم الشهيد أبانوب على مدرسة جرت ووضعت اسمه بجوار كوبري صغير بقريته على إحدى الترع رغم معارضة اهل الفقيد!! بذلك المسلك أرادت المحافظة أن ترضي جميع الأطراف، شكلياً وضعت اسمه على حاجة ومن جانب آخر ابتعدت من وجع الدماغ بوضع اسمه على مدرسة. بالمناسبة أسماء الكباري والشوارع في القرى لا أهمية لها لأنها لا تدون في الأوراق الرسمية وفي الغالب لا يرددها عموم الناس”.
أشار ابراهيم في تدوينة له إلى غياب دور الدولة والتغاضي عن العنصرية الممنهجة من قبل أهل القرية والذي لم يواجهه المسؤولون وتماشوا مع الضغوطات ولم يطلقوا اسمه على المدرسة.
تعاملت الحكومة المصرية بسلبية مطلقة مع الحدث ولم تتخذ أي إجراءات حاسمة بخصوص منع وضع اسم أبانوب مرزوق، فتدخّل المحافظ لحل المشكلة. وعندما حاولتُ أن افهم كيف حلّ المحافظ تلك المشكلة تبيّن أنه أطلق اسمه على أحد الجسور قيد الإنشاء في مدخل قرية أبانوب مرزوق. وبذلك حلت المشكلة ككل مشكلات المسيحيين في مصر من خلال “كوبري”!
بالبحث عن طرائق التكريم التي لقيها زملاؤه من صف الضباط والمجندين في الحادث ذاته أو غيره، نجد أن الحكومة عموماً خصصت عدداً لا بأس به من الشوارع والمدارس والميادين الشعبية بأسماء عدد ممن سقطوا في سيناء منذ بداية 2013 وصولا ًالى يومنا هذا، ما يدفعنا إلى طرح أسئلة عن الأسباب الرئيسية لتعامل الحكومة بهذا الشكل مع قضية ابانوب مرزوق المجند المسيحي الذي رفض أهل بلدته وضع اسمه على مدرسة القرية وقد وافق المحافظ خوفاً من غضب المتشددين.
للذكر مثل حظ الأنثيين حتى إن كنت مسيحياً!
“احنا ماعندناش الكلام ده في القضاء المصري للذكر مثل حظ الأنثيين” هكذا تحدث القاضي وخرج التقرير الصادر من المحكمة بخصوص إعلام الوراثة الخاص بالمحامية الحقوقية هدى نصرالله والذي صدر مؤخراً. فبعدما توفي والد هدى قررت أن تخوض معركتها بنفسها، ولكن ليس من أجلها فقط، بل لأجل كل امرأة مسيحية كما تقول، فسعت إلى الحصول على ميراثها مثل أخويها، بعدما اتفقت معهما على تقسيم الميراث بالتساوي، بموجب حكم قانوني وليس باتفاق ودي.
تنص المادة الثالثة من دستور 2014 على أن “مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية”.
وتنص المادة 245 من لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة عام 1938، في الفصل الثالث منها المتعلّق بالورثة واستحقاق كل منهم في الميراث على أن “فروع المورث مقدمون على غيرهم من الأقارب فى الميراث فيأخذون كل التركة أو ما بقي منها بعد استيفاء نصيب الزوج أو الزوجة، فإذا تعدد الفروع وكانوا من درجة واحدة؛ قُسّمت التركة في ما بينهم أنصبة متساوية لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى”.
رفضت هدى اقتراح أخويها، عندما طالباها بأن تمر الإجراءات كما اعتادت السلطات القضائية التعامل معها وأن يتم تسلم إعلان الوراثة في أي شكل من ثم يتم تقسيم الميراث في ما بينهم بالتساوي. كان لهدى هدف أسمى وأبعد من قضيتها الشخصية، ألا وهو ترسيم قوانين يتم الاعتداد بها في ما بعد لما تواجهه المرأة المسيحية من ظلم في قانون الأحوال الشخصية المصري، من قضايا الانفصال وصولاً إلى الميراث. فكثر من الذكور المسيحيين يستغلون عدم اعتراف القضاء المصري بالدين المسيحي في تشريعاته الخاصة بالميراث ويأخذون أكثر من حقهم طبقاً للدين المسيحي، باعتبار أن هذا ما أمرت به المحكمة وعليهم تطبيقه، وبذلك أصبح القانون عائقاً أمام المرأه في الحصول على حقوقها، خصوصاً المرأة المسيحية.
هذه المعركة تظهر شكلاً من أشكال الاضطهاد الذي تتعرض له المرأة المسيحية بموجب الشريعة الإسلامية، على رغم أن الدين المسيحي لا ينص على تلك الأفكار ولم يتناولها من قريب أو من بعيد، إلا أن أمراض المجتمع الذكوري يدعمها أساساً القانون ويبررها.
“لن نقبل شهادتك لأنك مسيحي!”
انتشرت هذه التدوينة في “فيسبوك” بشكل لافت قبل أسابيع، وهي تروي ما حصل مع والد الطبيب مارك استيفانوس وما تعرض له من إهانات داخل المحكمة. وذلك بعد تاريخ حافل للوالد المهندس الذي عمل في إحدى المؤسسات الحكومية 35 عاماً. وكان يفترض أن يحضر الوالد إلى المحكمة لكي يدلي بشهادة امام القضاء للفصل في قضية تخص أحد زملائه في العمل، إلا أن القاضي رفض شهادة المهندس مكاريوس لأنه مسيحي، “لا ولاية لقبطي على مسلم”. شعر الوالد وابنه الطبيب بضيق شديد، فنشر الأخير التدوينة، مشيراً إلى أن تلك ظروفاً كهذه تجعلة يفكر دائماً في الخروج من مصر، لأنه لا يتمتع بحقوقه أسوة بالاخرين.
أثير هذا الموضوع أول مرة عام 2008، عندما قام احمد شفيق، وهو مواطن مسلم، بطلب شهادة جاره المسيحي سامي فرج في قضية إعلام الوراثة 1824 لسنة 2008، إلا أن محكمة شبرا الخيمة رفضت شهادة المواطن المسيحي بحجة أن شهادته لا تجوز شرعاً على المسلم. وأجبرت المحكمة شفيق على اصطحاب شاهد مسلم.
بالعودة إلى الدستور،..
نجد أن هناك تضارباً واضحاً بخصوص الحق في الشهادة وضوابطه، إذ تنص المادة الثانية منه على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، فيما تنص المادة 53 على أن “المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الإجتماعى، أو الإنتماء السياسي أو الجغرافي ، أو لأى سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليهما القانون. تلتزم الدولة اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض”.
في المقابل، الشريعة الإسلامية لا تقبل شهادة غير المسلم في أكثر من نص.”لا شيء يفرق في قانون الإثبات بين المسيحيين والمسلمين يمنع الأخذ بشهادة أي مواطن” صرح المحامي رضا بكير من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. وبالرجوع إلى قانون الإثبات تبيّن بالفعل أن لا مادة قانونية تمنع شهادة غير المسلم والأخذ بها.
وأكد محمد حسن وهو محام حقوقي سابق وباحث قانوني: “أنا أميل إلى الشريعة الإسلامية في الأمور المتعلقة بالثوابت الدينية التي لا خلاف عليها، الموضوع مش حقوقي أو غير حقوقي، لأن لا ولاية من ذمي على مسلم. الولاية في دار المسلمين باعتبار أن مصر دار إسلام والذمي يدفع الجزية لتيسير أموره”.
كان هذا رصداً بسيطاً لما يمكن أن يعيشه المجتمع المسيحي في مصر في أسبوع واحد فقط!