الدكتور مراد وهبه ـ وطني ـ
قيل في تعريف المفارقات إنها ألغاز غامضة ومن ثم فهي بلا جواب. وفي هذا المعني قيل إن المفارقة في وصفها لشيء ما تتعمد أن يكون وصفها محكوما بالتناقض. ومن هنا جاء تعريفي للمفارقة بأنها قضية تبدو صادقة ومع ذلك فإنها يمكن أن تكون كاذبة, وفي هذا المعني يمكن إثارة مفارقات قبطية منها ما هو لاهوتي ومنها ما هو سياسي.
من المفارقات اللاهوتية أجتزئ مفارقة واحدة وهي القول بإن الكنيسة القبطية منفتحة علي الآخر بحكم أن الله محبة, ويبدو أن هذا القول صادق, أي أنه يمكن أن يكون كاذبا علي نحو ما حدث مع كل من هيباتيا من القرن الرابع والأنبا إيبيفانيوس من القرن الحادي والعشرين. حدث القتل بأمر كهنوتي صريح في حالة هيباتيا وغامض في حالة الأنبا إيبيفانيوس.
هيباتيا فيلسوفة تحولت من الوثنية إلي المسيحية وكانت تعلم الجماهير في أثينا وفي الإسكندرية الفلسفة اليونانية بوجه عام وأفلاطون وأرسطو بوجه خاص. امتدحها فولتير فيلسوف التنوير من القرن الثامن عشر لأنها كانت ملتزمة بقوانين المنطق ومتحررة عقليا من التعصب الديني, وذكرها الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل من القرن العشرين في مفتتح كتابه تاريخ الفلسفة الغربية حين تحدث عن قتلها علي يد الرهبان والجماهير داخل إحدي الكنائس لأنها قد مارست مفهوم التأويل علي الدين المسيحي في سياق الأفلاطونية الحديثة التي هي عبارة عن توليفة بين أفلاطون اليوناني وأفلوطين المصري.
وقال عنها المؤرخ الشهير جيبون في كتابه صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية: إن هيباتيا سيدة متميزة ولدت في عصر متعصب فقتلت, ومن يومها والإسكندرية خالية من متاعب الفلاسفة. والمعني أن الفلسفة بوجه عام مرفوضة من الكنيسة التي لا تختلف عن رفض علماء الكلام للفلسفة, وهو الأمر الذي دفع ابن رشد إلي نقدهم نقدا مريرا لأنهم يكفرون بعضهم بعضا علي نحو ما فعل المعتزلة والأشعرية.
هذا عن هيباتيا, فماذا عن الأنبا إيبيفانيوس؟ كان رئيسا لدير أبومقار الذي كان يقيم به الأب متي المسكين مع تلاميذه, وكان منفتحا علي علم اللاهوت مثلما كان الأب متي المسكين, ثم دخل علي الدير تلاميذ آخرون بفكر مختلف, ويبدو أن صراعا خفيا نشأ بين القائمين والداخلين عليهم الأمر الذي أدي إلي اغتيال الأنبا إيبيفانيوس في يوليو عام 2018 بفعل راهبين حكم عليهما بالإعدام. والعرف السائد في نظام الرهبنة أن الراهب ملتزم بالخضوع لمن هو أعلي منه في الرتبة الكنسية فهل تم القتل في سياق هذا العرف؟ وإذا كان ذلك كذلك فمن هو ذلك الأعلي؟
ومن المفارقات السياسية أجتزئ مفارقة واحدة وهي خاصة بعلاقة قبط مصر بالوطن وهنا أشير إلي فترة محدودة من عام 1922 إلي عام 1952 حيث كانت الكتلة الضخمة من الأقباط في وزارة المواصلات والأشغال العامة, فإذا قيل لأحد: هل أنت موظف بالسكة الحديد؟ فإن هذا السؤال ينطوي علي سؤال آخر سابق عليه: هل أنت قبطي؟ وكان منهم كثيرون في الري وفي وزارة المالية, وفي وزارة الأشغال العامة. ومع ذلك فقد خلا تنظيم الضباط الأحرار في ثورة يوليو 1952 من وجود ضباط أقباط, لماذا؟ أغلب الظن أن قبط مصر فهموا الآية الواردة في الإنجيل: اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله علي أنها مانعة لهم من التدخل في الشئون الدنيوية التي هي من اختصاص قيصر ومحرضة لهم علي التفرغ للشئون الروحية التي لها علاقة بالله, وأظن كذلك أن هذه المفارقة قد دفعت النخبة القبطية إلي الهجرة من مصر إلي أمريكا وكندا وأستراليا في الستينيات من القرن الماضي بدعوي أن الحاكم يطاردها, ولهذا يلزم إزالة هذه المفارقة إذا أريد لقبط مصر أن يؤدوا دورهم السياسي مثلهم في ذلك مثل أي مواطن مصري.
وفي هذا السياق يمكن إثارة مفارقات أخري إلا أنني أكتفي بهاتين المفارقتين وأترك المفارقات الأخري لقراء هذا المقال.