In In Arabic - بالعربي

مدى مصر ـ

طبقًا لنصوص الدستور والقانون فإن المجلس الأعلى للإعلام هو السلطة المختصة في مصر بحماية حرية الرأي والفكر والتعبير وضمان استقلال وسائل الإعلام وحيادها وتنوعها. رغم ذلك، ومنذ تأسيس المجلس عام 2017، اختار القائمون عليه طوعًا أو قسرًا أن يقوم بالدور الذي كانت تقوم به «وزارة الحقيقة» كالتي تحدث عنها جورج أورويل في روايته «1984»، التي صدرت عام 1949 وتنبأ فيها بظهور جمهوريات «الأخ الأكبر»، وهو الزعيم الذي يراقب كل شيء،وتتولى أجهزته صياغة الواقع وتشكيله لكي يبقى الجميع في قبضة نظامه وخدمته.

كانت وزارة «الحقيقة» تقول إنها مسؤولة عن إتاحة المعلومات والأخبار للشعب، لكن دورها الحقيقي كان إخفاء المعلومات وتزييف الأخبار وتجهيل الناس. بطل الرواية وينستون سميث كان يعمل في قسم الوثائق بالوزارة، ومهمته إعادة كتابة المقالات القديمة والأخبار وتغيير ما بها من حقائق، بنفس تواريخها القديمة لتتفق مع ما يتفوه به «الأخ الكبير» بأثر رجعي، على أمل إقناع الناس بأن حالهم أصبح أفضل مما كان عليه قبل ذلك، وأنهم يعيشون في أزهى العصور.

المجلس الأعلى للإعلام، الذي يترأسه نقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد، لعب خلال الأعوام الثلاثة الماضية دورًا قريبًا من دور «وزارة الحقيقة» في  دولة أوشينيا العظمى في عهد «الأخ الأكبر». فحصار السلطة الحالية لحرية الرأي والتعبير، وسيطرتها على الصحافة، عبر تأميم معظم منصاتها وحجب مئات المواقع الإلكترونية ووضع ما تبقى تحت الرقابة والتوجيه، تحول بقدرة قادر إلى «مزيد من الانفتاح وإعطاء الفرصة للرأي والرأي الآخر»، وفق ما صرح به رئيس المجلس في تعليقه على تقرير المجلس السنوي الثاني حول حالة الإعلام في مصر الصادر قبل أيام.

تقرير المجلس المشار إليه تحدث في الباب الخاص بـ«حرية الرأي والتعبير» عن صحافة وإعلام دولة أخرى غير مصر. ما تضمنه التقرير من أن «الأدوات المتاحة لتعبير المصريين عن آرائهم تتيح لهم ذلك بحرية وبلا ضغوط أو ممارسات تحد منها» يصلح لوصف حال الحرية في الدول الاسكندنافية، وليس لدولة تقبع في ذيل قائمة دول العالم من حيث حرية التعبير بحسب المنظمات الدولية، ولا لدولة وضعت إعلامها تحت أجهزة الوصاية والتوجيه باعتراف إعلاميين مؤيدين قبل المستقلين أو المعارضين.

«هناك أكثر من 50 برنامج إذاعي يتيح للمصريين الحديث على الهواء مباشرة في مختلف القضايا التي يتم مناقشتها، كما أن هناك عشرات البرامج تتيح نفس الميزة على الشاشات ويتمتع المصريون بمئات المقالات يوميًا في الصحف والمجلات الورقية والإلكترونية»، تباهى واضعو التقرير بأعداد البرامج والمقالات التي يتم تصفيتها في أكثر من مصفاة تكرير حتى تصل إلى المواطن منزوعة المحتوى الصحفي.

وعلى طريقة «العدد في الليمون» نقل واضعو التقرير حصرًا لعدد الحسابات النشطة على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، والتي بلغت في ديسمبر الماضي 101 مليون حساب، طبقًا لبيانات الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، منها «44 مليون حساب على فيسبوك و35 مليون حساب على اليوتيوب و22 مليون على تويتر». وأشاروا إلى أن الشعب المصري يناقش عبر تلك الحسابات «بحرية تامة كل ما يتعلق بشؤونهم من أمور كانت تعتبر في السابق من المحاذير.. وتصل الممارسة لدرجة الفوضى أحيانًا فيما يتصل باختراق الخصوصية والحض على الكراهية واستخدام الألفاظ السوقية المتدنية وترويج الشائعات».

لم يحصر التقرير بالطبع عدد النشطاء السياسيين والصحفيين المحبوسين احتياطيًا على ذمة اتهامهم بـ «نشر أخبار كاذبة أو إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، أو مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها».

لم يحصر التقرير كذلك أساتذة الجامعات الذين تمت إحالتهم إلى التحقيق الإداري ووقفهم عن العمل بسبب نشر آرائهم ومواقفهم في قضايا مهنية على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم من أحيل إلى النيابة العامة وتم حبسه احتياطيًا بتهمة تحريض الرأي العام. ولنذكر منهم الدكتور طارق الشيخ، أستاذ القانون ومسؤول صفحة «علماء مصر غاضبون»، والذي طالب مع الآلاف من زملائه بإصلاح الأحوال المعيشية لأساتذة الجامعات ومساواتهم برجال القضاء والشرطة، وأُخلى سبيله بعد قضائه ما يقرب من ثلاثة شهور رهن الحبس الاحتياطي.

ذكرت اللجنة التي وضعت التقرير أنها «لم تتلق أية شكاوى بمنع كاتب رأي من كتابة مقالة أو حذف فقرات منه، كما لم تتلق اللجنة أي شكاوى بشأن منع إعلامي من ممارسة عمله».

اللجنة في تلك الفقرة تحديدًا كانت محقة، فلا يوجد كاتب بالغ عاقل راشد يذهب بمحض إرادته، بعد أن يمنع «الرقيب الخفي» مقاله، إلى مجلس أُسند إليه إصدار قرارات المنع والحجب ووقف الطبع؛ من يفعل ذلك كمن يذهب إلى الذئب ليستجير من جور الأسد.

«يمارس عشرات الكتّاب المعارضين كتابة مقالاتهم بصفة دورية في الصحف الخاصة والحزبية اليومية والأسبوعية بانتظام وبحرية تامة ودون أية ضغوط، كما أن هناك عشرات من المقالات ذات الآراء المعارضة تُنشر يوميًا في الصحف القومية وعلى المواقع الإلكترونية الخاصة بها». قفزت على وجهي ابتسامة ساخرة وأنا أطالع تلك الفقرة الهزلية التي وردت في تقرير المجلس، ومر أمام عيني طابور طويل من كتاب الرأي الذين هجروا الكتابة قسرًا بقرار غير معلن من رئيس تحرير مصر، أو طوعًا بعد أن ضاق صدرهم بعبث مقص الرقيب بمقالاتهم. أما أولئك الذين فتحت لهم السجون أبوابها ولا يعلم أحد متى ستنتهي محنتهم، فلهم الله.

ورغم أن أخبار وقف طباعة الصحف لحين رفع المادة الصحفية التي لم تتضمنها الأجندة التحريرية التي ترسل عبر جروب «واتساب» الشهير كل صباح، خرجت إلى العلن وأصبحت مادة للتداول والتندر في جلسات الصحفيين والإعلاميين، إلا أن اللجنة التي أعدت التقرير أشارت إلى أنها لم تتلق «أية شكاوى تخص منع صحيفة من الطباعة أو التضييق على عمل الإعلاميين أو عرقلة عملهم أو ممارسة أية ضغوط تؤثر على استقلاليتهم»، مؤكدة أنها لا تلتفت لما قد يُبث على وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الشأن لاحتوائه على معلومات غير صحيحة وغير معلوم مصدرها.

لن أُعدد للجنة والسادة أعضاء المجلس وقائع ما جرى خلال السنوات الماضية من حجب مواقع أو منع ووقف طباعة صحف خاصة أو حزبية، فالمساحة أقل من أن ترصد كل تلك الوقائع. يكفي فقط أن أشير إلى بعض ما جرى في هذا الشأن، وكان آخره ما تعرض له موقع «مدى مصر» قبل أسابيع، وما لحق بمئات المواقع التي تم حجبها منذ 2017، وما أدى إليه من تشريد مئات الصحفيين والعاملين بالمهنة. أُذكرهم أيضًا ببعض الصحف التي تحلى رؤساء تحريرها بقدر من الشجاعة وأعلنوا عن مصادرتها لأسباب مختلفة، ومنها صحيفة الأهالي لسان حال حزب التجمع و«البوابة» و«الوفد» و«الصباح»، وهناك بالطبع المئات من الحالات الأخرى، إلا أن رؤساء تحريرها آثروا السلامة.

وأسأل السادة أعضاء اللجنة، لماذا غابت قضايا مثل أحداث «العنف الطائفي» أو «مقاومة أهالي جزيرة الوراق لقرارات إعادة التوطين» من وسائل الإعلام؟ وأين ذهبت المقالات والآراء المعارضة في قضية «التعديلات الدستورية» التي جرت وقائعها مطلع العام الماضي؟ وكيف سقط عنوان «الحكومة تغرق في شبر ميه» من مانشيتات صحف الصباح عندما تغمر مياه الأمطار شوارع المحروسة مع أول كل شتاء.

في ختام هذا الباب من تقرير حالة الإعلام، وبعد الإشادة بارتفاع سقف الحرية في الربع الأخير من عام 2019، ذكر أعضاء اللجنة عددًا من الملاحظات، كان أكثرهم غرابة هو «تراجع عدد الصحف التي تستعين بفنون الكاريكاتير»، لم ينبه أحد السادة الأعضاء إلى أن هذا الفن قائم في الأساس على السخرية اللاذعة. وتلك السخرية نفسها هي البند الأول على قائمة المحاذير التي تصل إلى هواتف مسؤولي النشر في الصحف.

من الأقوال المنسوبة إلى جوزف جوبلز، وزير الدعاية والإعلام النازي: «اكذب.. اكذب.. حتى يصدقك الناس.. وبالغ في كذبك.. فكلما كبرت الكذبة كلما سهل تصديقها». رسّخ جوبلز مفهوم «البروباجندا السياسية»، وكان له السبق في وضع نظرية «غسيل الأدمغة»، ولعب الدور الأخطر في الترويج للفوهرر النازي باعتباره منقذ الشعب الألماني، ووضع أسس تطوير فن صناعة الكذب والتضليل الإعلامي، وتزييف الحقائق.

حاولت الديكتاتوريات الحديثة تطوير نظرية جوبلز بما يخدم مصالحها. أسست أجهزة ومؤسسات وشركات أوكلت لها عملية صناعة الكذب والشائعات وإطلاقها عبر وسائل إعلامها. وبدعوى الحفاظ على الاستقرار وعدم إثارة الرأي العام تتعمد تلك الأجهزة إخفاء الحقائق والتلاعب بالأخبار، فتظهر أحد جوانبها وتغفل جوانب أخرى، ليتم تصوير الفشل باعتباره نجاح وإهدار المال العام باعتباره إنجاز غير مسبوق.

مع عصر الفضائيات المفتوحة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي أصبح من الصعب خداع الجماهير على طريقة جوبلز وخلفائه طوال الوقت، فالأخبار والمعلومات باتت متاحة على قارعة منصات التواصل الاجتماعي، وما تبثه قنوات التضليل من أخبار مغلوطة أو مبتورة لا تصمد دقائق حتى يتم كشف زيفها.

لم تدرك تلك الأنظمة أن نظرية جوبلز الدعائية ذهبت بلا رجعة، فلا يستطيع نظام مهما بلغت سطوته خداع الجماهير والسيطرة على عقولها، أو أن يقنعها بالسراب مهما امتلك من أجهزة ومنصات. مواقع «السوشيال ميديا» وبرامج تجاوز الحجب أنهت السيطرة على تدفق المعلومات اللازم لنجاح عمليات التوجيه وغسيل الأدمغة، وأصبح من المستحيل التعامل مع الجماهير باعتبارها قطيع يسهل توجيهه. ولم يعد هناك مفر من ذكر الحقيقة حتى لا يتم كشف الزيف فتكون الخسارة أفدح.

كلما اعتمدت منصات ومؤسسات وأجهزة تلك الأنظمة على بث المعلومات المغلوطة والحديث عن الإنجازات الوهمية وتجاهل الواقع، زاد سخط الناس على السلطة، لأنهم ببساطة يدركون سريعًا أنها «بتضحك عليهم». الواقع كاشف لا يمكن تجميله، والمواطنون أصبحوا شركاء في صناعة الأخبار الحقيقية عبر منصاتهم الإلكترونية.

ومع ذلك، لا يزال المجلس الأعلى للإعلام في مصر وشركائه، يستندون في التعامل مع ملف الإعلام على نظرية عفى عليها الزمن. ولا يعلم هؤلاء أن تقريرهم الأخير فتح عليهم باب السخرية والتندر، وانتشرت على صفحات النشطاء والصحفيين وقائع تثبت زيف ما تضمنه التقرير من مغالطات ومبالغات.

https://mada22.appspot.com/madamasr.com/ar/2020/01/21/opinion/u/%D9%88%D8%B2%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%A8%D9%84%D8%B2-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%84%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%84/?fbclid=IwAR2wVxmBteW06-_oN_YW-I7InXBTJtYQJW3EavmT9ZlsFPd2wUNNlfpBOow

Recent Posts

Leave a Comment