In In Arabic - بالعربي

سعد الدين ابراهيم ـ المصري اليوم ـ

منذ تأسيس دولة باكستان، على أساس دينى، عام 1947، وهى والتعاسة لا تفترقان، خاصة إذا ما قورنت بالمجتمع الأم، الذى انفصلت عنه، وهو الهند. ولأن الغرض المُعلن لذلك الانفصال، كان تمكين مسلمى الهند (خمسين مليونا فى ذلك الوقت) من حُكم أنفسهم فى استقلال عن الأغلبية الهندوسية التى كانوا يعيشون وسطها، منذ دخل الإسلام الهند فى القرن التاسع الميلادى، على أيدى التجار العرب المسلمين. ولكن منذ ولادتها على هذا الأساس الدينى، فقد كانت المُغالاة فى التعبير عن النزعة الدينية الإسلامية، سبباً فى العديد من الانقلابات العسكرية، واضطهاد الأقليات، حتى لو كانت مسلمة من غير الأغلبية السُنّية.

وآخر تجليات الخناق الذى يطبق على عُنق باكستان هو الصياح الغوغائى لمُطاردة سيدة باكستانية مسيحية، اتهمتها إحدى جاراتها، أثناء خلاف على أحد الأمور الدنيوية العادية، التى يمكن أن يختلف عليها أى جيران، بأن تِلك الجارة المسيحية عابت فى الذات النبوية للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم). وثارت ثائرة الجيران المسلمين الآخرين، وكادوا يفتكون بالجارة المسيحية، واسمها آسيا بيبى، لولا تدخل الشرطة، وتهدئة الجيران الغاضبين، بوعد تقديم آسيا بيبى للمُحاكمة للعيب فى الذات النبوية.

وفعلاً تمت مُحاكمة آسيا بيبى، أمام إحدى المحاكم الابتدائية، وصدر حُكم بمُعاقبتها بعشر سنوات سجناً، وقضت من تِلك العقوبة ست سنوات، إلى أن استطاعت بعض المنظمات الحقوقية، الاستئناف ضد الحُكم، إلى أن أصدرت المحكمة العُليا فى باكستان حُكمها، ببراءة السيدة آسيا بيبى، فى أوائل شهر نوفمبر 2018.

ولم يلق الحُكم القضائى البات والنهائى رضا المُتعصبين الإسلاميين. ورغم أن الرئيس الباكستانى الشاب عارف علوى، الذى اُنتخب قبل صدور الحُكم بعدة أيام، كان قد أعلن احترامه لحُكم المحكمة العُليا، وإصراره على تنفيذ الحُكم، وأمر بالإفراج عن السيدة آسيا بيبى. وعلى الفور صاح غُلاة المتأسلمين الباكستانيين صيحة واإسلاماه، فخرجت مظاهرات غاضبة فى شوارع المُدن الباكستانية الرئيسية تُطالب بالفتك بالسيدة المسيحية أسيا بيبى، وهو ما اضطر السُلطات الباكستانية إلى إخفاء آسيا بيبى فى مكان أمين، إلى أن أعلنت هولندا استعدادها لمنح آسيا بيبى حق اللجوء السياسى.

وبالمناسبة، كان لنفس السُلطات الهولندية فضل منح المُفكر المصرى نصر حامد أبوزيد، حق اللجوء السياسى قبل ثلاثين عاماً، عندما طارده غُلاة مُتأسلمون، واستصدروا حُكماً بتكفيره، وفصله عن زوجته، أستاذة الأدب الفرنسى بنفس جامعة القاهرة، حيث كان هو أيضاً أستاذاً بها. أى أن هولندا، مثل العديد من البُلدان الغربية الديمقراطية، صاحبة سِجل حافل بالترحيب والحماية للمُضطهدين دينياً وسياسياً فى بُلدان العالم الثالث عموماً، وبُلدان المسلمين خصوصاً.

ولكن، عودة إلى الشقيقة التعيسة باكستان، التى جلب بعض غُلاة المسلمين فيها المصائب خلال السبعين سنة الماضية، أى منذ ظهورها كدولة مستقلة عام 1947. فبينما ظلت الهند معظم هذه السنوات (65 سنة من 70 سنة) ديمقراطية تعددية مدنية، فإن باكستان رزحت تحت حُكم عسكرى ديكتاتورى قُرابة نصف تاريخها. وبينما حققت الهند، مثلها مثل الصين، تقدماً مستمراً فى كل المجالات، جعل منها إحدى الدول العُظمى فى عالم القرن الحادى والعشرين، فإن باكستان، مازالت ضمن بُلدان العالم الثالث، على كل مؤشرات التنمية والتقدم.

إن ما حدث فى باكستان، فى خريف 2018، هو درس لنا فى مصر، والبُلدان الأخرى ذات الأغلبية المسلمة. فالمُزايدة فى التدين باسم الإسلام، يمكن ألا تقف عِند أى حدود، ويمكن أن تؤدى إلى خوف ورُعب الأقليات غير المسلمة فيها. والأسوأ هو أن تؤدى تِلك المُزايدات إلى الهجرة شبه القسرية. وهو ما ينطوى ليس فقط على تشويه صورة الإسلام والمسلمين، فى العالم الخارجى، بل ربما يؤدى إلى استعداء قوى يمينية على المسلمين المُقيمين فيها اضطهاداً وتنكيلاً.

وقد شهد العِراق فى السنوات الأخيرة تنكيلا بالأقلية الإيزيدية التى تعيش فيه منذ مئات السنين. وهو ما أدى بدوره إلى الهجرة القسرية للإيزيديين من وطن لا يعرفون غيره. أما الخسارة الحضارية والاقتصادية لإفراغ أى بلد ذى أغلبية مسلمة، فحدّث ولا حرج. من ذلك أن الهند، قد حرص منذ استقلالها عام 1947، على رعاية المسلمين الذين رفضوا تركها إلى باكستان فى ذلك الوقت. من ذلك أنها انتخبت رئيس جمهورية مسلما، أكثر من مرة خلال العقود السبعة الماضية. وأثمرت هذه السياسة المُتسامحة. فقد كان الهنود الذين فازوا بجوائز نوبل فى العلوم من مواطنيها المسلمين، بل إن أبوالقُنبلة الذرية الأولى فى الهند، كان هندياً مسلماً.

لقد كان للبابا الراحل شنودة، قول مأثور حول وضع الأقباط فى مصر، خصوصاً، والمسيحيين فى الوطن العربى عموماً، وهو أنهم ملح الأرض. وكما تفسد الكائنات بدون قدر من الملح فيها، فكذلك المجتمعات بدون التنوع البشرى والدينى!

ومصداقاً لِما قاله البابا شنودة، فقد أثبت ووثّق عِلم اجتماع الإبداع Sociology of Creativity أن معظم المُبدعين ينتمون إلى أقليات فى مجتمعاتهم. فلهذه الاعتبارات جميعاً ينبغى لكل مَنْ يهمه الأمر أن يحرص على دعم السيدة الباكستانية المسيحية، آسيا بيبى. وعلينا فى بلد مثل مصر أن نُحافظ ونرعى أقباطنا، وشيعتنا، وبهائيينا. ففضلاً عن أن ذلك جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، وينص عليه دستورنا، فإنه ينطوى على فوائد أخرى، لمجتمعنا المصرى، ولوطننا العربى الأكبر. والله أعلم.

وعلى الله قصد السبيل.

https://www.almasryalyoum.com/news/details/1351349

Recent Posts

Leave a Comment