In In Arabic - بالعربي

كارولين كامل ـ مدى مصر ـ

في كل عام، وبعد عيد القيامة، تحتفل الكنائس بأكثر أيامها فرحًا، مع انتهاء «الصوم الطويل»، لتتزين الكنيسة بستائر بيضاء زاهية، وتملأ صلواتها ألحان مفرحة. لكن هذه لم تكن الحال هذا العام، فكانت «خمسين الفرح» امتدادًا لأسبوع آلام طويل بدأ يوم أحد الشعانين ولم ينته بعد.

أربعون يومًا مرت على تفجيرات كنيسة مارجرجس بطنطا والكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية يوم أحد السعف، في أبريل الماضي، والتي راح ضحيتها 45 شخصًا، وتزداد الحصيلة يومًا بعد يوم بوفيات وسط عشرات المصابين. كان آخرهم ريمون يوسف جرجس، المصاب في تفجير طنطا، والذي توفي قبل يومين فقط في ألمانيا متأثرًا بجراحه، ليتحول إلى صورة معلقة إلى جوار صور من سبقوه من ضحايا التفجير على حائط الكنيسة خلال حفل تأبين الضحايا الذي أقيم عقب صلاة قداس الأربعين أمس، السبت.

خلال القداس، تحدثت العظة عن قصة داود النبي وجلياط، المذكورة في التوراة، حيث هزم الصبي الصغير المحارب الجبار، «أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود»، وأكد القسيس على أن الكنيسة معتادة على تقديم الشهداء عربون محبة للمسيح.

فيما قال مذيع كنيسة القديس أبانوب، الملحقة بكنيسة مار جرجس أثناء تقديم حفل التأبين: «كل ما كنيستنا تقدم دم ودموع وعرق هي كنيسة مثمرة وقوية»، وتابع مفسرًا: «العرق هو عرق الخدام والقساوسة الذين يخدمون الكنيسة، والدموع هي دموع الرهبان والنساك ومتوحدين الأديرة، وأخيرًا الدم هو دم الشهداء من المصلين وأبناء الكنيسة».

«أيوة أنا ليا شفيع في السما.. هو في مكان أحسن.. بس أنا عمري ما أذيت حد.. ليه يحصل لي كده»، يقولها نعيم زكي، والد مينا، أحد ضحايا التفجير، قبل أن تغلبه الدموع أثناء حديثه لـ «مدى مصر» خلال حفل التأبين.

يجلس زكي على كرسي متحرك زكي، لازمه منذ بتر ساقه بسبب إصابته بالسرطان والسكر، ولا تتوقف دموعه كلما تذكر ابنه الذي جاء خصيصًا من خارج مصر لزيارته: «يعني أنا أقول له تعالى أشوفك لأني بموت، يروح يموت هو، الحمد لله على كل شيء، بس ده هو كان عكازي أنا وأمه الغلبانة»، يتحدث الأب بأسى عن خسارته، محاولًا مواساة نفسه بانتقال نجله إلى مكان أفضل كشهيد.

من داخل قداس أربعين ضحايا كنيسة مار جرجس – صورة: روجيه أنيس

إحدى الناجيات من التفجير، حضرت للمشاركة في تأبين عم زوجها، تقول لـ «مدى مصر»: «أنا فعلًا كتبت: يا بخت اللي بيموتوا شهداء، لكن يوم ما التفجير حصل، أنا شيلت بنتي وطلعت أجري من الكنيسة ما فكرتش حتى أبص مين مصاب، وقلت لربنا سامحني يارب أنا بشر وضعيفة ومش عايزة بنتي تموت بالمنظر ده، فعلًا الواحد كان سهل يقول آه عادي نموت كده، لكن ساعة الجد.. لأ مش حقيقي، ومش هفرح زي ما هما بيقولوا لنا نفرح إن عيالنا تموت كده».

بوجه يبدو عليه الإعياء، وذراع يختفي داخل جبيرة، يقول شاب من المصابين في التفجير، والذي أُختير ممثلًا لأسر المصابين: «خسرنا أحباء كتير لكن عزاؤنا أن البابا والأنبا بولا بخير لأنهم كانوا قريبين من الموت في التفجيرات، ولكن الله يبقى على حياتهم ليتموا رسالة الكرازة».

كل من توفي له قريب في التفجير، يرى أنه أصبح له شفيع في السماء. وأمام صور الضحايا المعلقة على جدران الكنيسة، تدفع إحدى السيدات ببناتها الأربعة -أكبرهن عمرها اثنا عشرة سنة- نحو صورة والدهن، وتقول لكل منهن: «ده بابا.. خدي بركة من صورته»، لكن كلما اقتربت إحدى النسوة لتعزيتها يختنق صوتها بالدموع.

على عكس أجواء الصخب التي عمت صلاة جنازة الضحايا في طنطا والإسكندرية، من زخم إعلامي ووجود مكثف للصحفيين والمصورين وملاحقتهم لأسر الضحايا، أدت الأسر صلاة الأربعين في أجواء هادئة، طغت الدموع على عيون النساء المتواجدات فيها، فيما كانت الألوان البيضاء في ملابسهن، وخاصة الأصغر سنًا فيهن، حاضرة بشكل لا تخطؤه عين، رغم الحزن والسواد المسيطر على المشهد.

من داخل كنيسة مار جرجس بطنطا – صورة: روجيه أنيس

في صمت مهيب ودموع غزيرة وقفت النساء يبكين أزواجهن وآبائهن وأبنائهن، ويعلو نشيج إحداهن أحيانًا، ثم يعاود الخفوت. وحدها الأصوات الصادرة عن أجهزة اللاسلكي التي يحملها رجال الأمن، كانت واضحة طوال الوقت حتى داخل الكنيسة والخيمة المشيدة داخلها للصلاة.

شهد محيط كنيسة مارجرجس تشديدًا أمنيًا، وأُغلقت كافة الشوارع المحيطة بها، وانتشر خبراء المفرقعات بأجهزتهم لتمشيط المنطقة، وظهرت القوات الخاصة على أسطح المباني المحيطة بالكنيسة، حيث حضر الصلاة محافظ الغربية، اللواء أحمد ضيف صقر، وعدد من القيادات الأمنية وأعضاء مجلس النواب.

«الروبوت كان هنا وشال القنبلة اللي قدام الكنيسة [قبل تفجيرات أحد السعف]، وبعدها بأسبوع حصل اللي حصل، وما كانش فيه ربع التحصينات والأمن ده، بس عشان المحافظ جاي النهارده فيه كل ده، كان بالأولى يعملوها قبل التفجير ما يحصل»، يقول أحد قساوسة كنيسة مارجرجس لـ «مدى مصر»، فضل عدم ذكر اسمه، معلقاً على التواجد الأمني المكثف.

في كلمته خلال حفل التأبين، قال سيد أبو بيه، أمين عام المجلس القومي لرعاية أسر الشهداء والمصابين التابع لمجلس الوزراء، إن «الرئيس كلف جميع المسؤولين على كل المستويات بتلبية حاجات أسر الشهداء».

«خلاص الناس بتنسى ودي طبيعة شعبنا، ولا حد هيفتكرهم زيهم زي اللي سبقوهم، لكن المكوي بنار المصيبة عمره ما بينسى وهو وحده الموجوع، البلد نفسها بتنسى، ولا هتسمعي عن مجرم حقيقي اتعاقب، يلا أهو نصيبنا»، تقول إحدى النساء المشاركات في صلاة الأربعين، والتي جاءت لتعزية الأسر دون معرفة أيًا منهم، لكنها أرادت أن تقول لهم أنها لم تنس، على حد تعبيرها.

تأبين ضحايا «مارجرجس» بطنطا.. «أربعين» الحزن في «خمسين الفرح»

Recent Posts

Leave a Comment