وطني ـ
رحل أمس الدكتور فوزي اسطفانوس مؤسس مؤسسة مارمرقس للحفاظ على التراث القبطي. رجل بسيط ومتواضع وابتسامته لا تفارق وجهه، وحين يتكلم يخرج منه نبع حب لقبطيته وشغف لنقل التاريخ القبطي القديم للأجيال القادمة. رجل ينقل أحلامه وطموحاته إلى نطاق حقل العمل والكفاح حتى يأتي بثمار لها تأثير في المجتمع.
اهتم الدكتور فوزي اسطفانوس طبيب القلب بأمريكا بتأسيس مؤسسة مارمرقس (سانت مارك) لإحياء التراث القبطي، وله الفضل في انتقاء فريق عمل له نفس رؤيته وعلى قدر عالي من العلم بالتراث المسيحي وتدوينه للحفاظ عليه من الإندثار، من خلال عمل مؤسسة مارمرقس.
وعن حلمه تكلم هذا الرجل العظيم لوطني وأوضح كيف ظهرت مؤسسة مار مرقس للنور بعد سنين من الكفاح؟
وفي يوم رحيل الدكتور فوزي اسطفانوس عن عالمنا، عن عمر يناهز ٨٤ سنة، ننشر كلامه الذي رواه لنا آملين أن يستكمل فريق عمل مؤسسة مارمرقس هذا العمل بنفس الحماس الذي كان يحرك هذا القبطي المرموق المتواضع. وإليكم ما رواه لنا الدكتور فوزي اسطفانوس قبل رحيله:
*****
بداية الفكرة من مقولة
عندما انشأنا كنيسة كليفلاند، بالولايات المتحدة، ربنا بعت لنا رجل من أوكرانيا اسمه مارتينيو ، وكان مصور ماهر جدا ومتخصص، فاقترحت عليه التعاون معي لتصوير الأديرة المصرية، فجاء رد المهندس الأوكراني: “محدش يصور حاجة قبل ما يذاكر تاريخها.”
بقيت هذه العبارة في عقلي وأنا أفكر ماذا يمكنني أن أعمل لكي أجمع التاريخ القبطي والمسيحي.. ثم مرت الأيام وقابلت الدكتور يونان لبيب رزق، في المستشفى بكليفلاند، وكان له باع كبير جدا في التاريخ، لكنه لم يكن علاقته قوية للعمل مع الكنيسة ولم يكتب في التاريخ الكنسي من قبل.
تحدثنا معاً لتدوين ودراسة التاريخ القبطي، وعندما وصلت مصر في أقرب فرصة قابلته بمقر جريدة الأهرام وكان معه المستشار سليمان نسيم والدكتور وليم سليمان قلادة (الذي قام باعداد كتاب الدسقولية) والدكتور جودت جبرة، وقتها تشاورنا على طبيعة العمل واتفقنا أن الدكتور جودت يتولي عملية المراجعة لما نعده.
أول كتاب يصدر من مركز مار مرقس
لم يحالفنا الحظ في العمل كثيراً بسبب وفاة يونان لبيب رزق ووليام قلادة، لكن استمرت اجتماعاتي مع الدكتور جودت جبرة في مكتب الدكتور نصحي عبد الشهيد. وكان يعمل معنا المهندس فهيم واصف والسيدة هدى جرس. وأطلقنا اسم على هذا الكيان “مركز مارمرقس” وكان أول كتاب يخرج للنور من هذا المركز بعنوان “تاريخ الأمة القبطية” الطبعة الثانية لجودت جبرة، والطبعة الأولى كانت للكاتب يعقوب نخلة رفيلة عام ١٨٩٨م وأقبل الناس على الكتاب حتى نفذ من الأسواق سريعاً.
مؤتمرات عن التاريخ القبطي
ثم بدأنا نتحرك في اتجاه مختلف بإقامة مؤتمرات تتحدث عن المسيحية الأولى والتطرق للكلام عن الأديرة والرهبنة، قسمنا مصر لسبع مناطق: الأقصر وأسوان – النوبة – سوهاج واخميم – أسيوط – قوس ونقادة – البحيرة والخمس مدن الغربية – الاسكندرية. وقررنا نعمل مؤتمر في كل منطقة.
بدراسة تلك المناطق اكتشفنا كم هائل من العلماء والباحثين الدوليين الذين كتبوا ابحاث عن مصر ولم نجد مصريين كثيرين، وفي بداية هذه المؤتمرات وجدنا إقبال دولي أعلى من المصري. وكان الدكتور جودت جبرة يمدنا بأسماء العلماء والباحثين الدوليين الذين كان لهم دراسات في هذه المناطق لكي ندعوهم لتقديم أبحاثهم في المؤتمر، ونتولى أنا وفهيم وهدى التنظيم والاتفاقيات.
بدأنا هذا العمل بقيمة مادية ضئيلة، ثمن اشتراك المصريين لحضور المؤتمر، وكنا نقيم في الدير المقام فيه المؤتمر ونأكل من الدير. وفي نهاية المؤتمر نشكرهم ونتبرع للدير بمبلغ بسيط لقلة مواردنا.
لمسة بركات
من بركة ربنا لهذا العمل، أنه كانت تحدث عجائب كثيرة وتسهيلات لم نكن نتوقعها، ففي نقادة وقوس واجهنا عدم وجود سكن كافي لأعضاء المؤتمر، فحلت بركة ربنا واستطعنا المساهمة في بناء ٢٠ غرفة إضافية ليصبح عندهم سكن أكثر في المكان.
أما في دير الأنبا شنودة بسوهاج، عندما علم محافظ سوهاج بالمؤتمر وأعضائه الدوليين، أمر بإنارة الطريق من سوهاج إلى الدير، وكان هذا مسعى للدير من فترات طويلة.
حتى في أسوان أماكن الإقامة كانت أقل من الاحتياج، فجاء الأنبا هدرا وقال انه سيبني قلالي للرهبان وعرض علينا السكن فيها وقت المؤتمر، ومن ترتيب الله أن هذه القلالي تم انتهاء تشطيبها وتجهيزها أول يوم لمؤتمرنا.
في سوهاج واخميم، كان الأنبا يؤانس هو المشرف على الدير وقتها، واستطاع اقامة مقرات سكن جديدة، لكي نستخدمها لإقامة أعضاء المؤتمر. وكنا في كل مؤتمر نأكل من أكل الدير ونقيم المؤتمر بأقل تكاليف ممكنة.
الجامعة الأمريكية ومؤسسة مارمرقس
أصدرنا مطبوع لأول مؤتمر أقمناه ولم نعرف ماذا نفعل بالكتب وكيف سنقوم بتسويقها، فقررنا التوجه للجامعة الأمريكية لكي تتولى عملية الطباعة وتوزيع الكتب لاحقاً، وتوالت المؤتمرات تباعاً وتكالب عليها الباحثين وكثرت الإصدارات.
ومرت السنين وكان فهيم واصف المسئول عن مكتبنا، ومن المؤتمرات والتبرعات جمعنا بعض الأموال وأودعناها في البنك لتأتي بفائدة ننفق منها على النشاط.
فكرة مطبوعات جديدة
بعد نجاح فكرة المؤتمرات المتخصصة في المناطق السبع حول مصر، بدأنا نفكر في التاريخ المتوارث بثقافة الرواية. فمن ضمن أساليب نقل التراث كانت الروايات الشفهية التي باتت أن تندثر لأنه لا يوجد أحد يدونها. ومن هنا بدأنا نبحث عن تاريخ الإيبارشيات المتوارث شفهياً، وتوجهنا لشخص اسمه نبيل كان مسئول عن مكتبة الكاتدرائية، وكان من القليلين الذين كانوا يحفظون المعلومات في أذهانهم، وهو كان يكتبها في مذكراته اليومية، لكن لم يوجد اي كتب او مستندات أخرى لما كنا نبحث عنه.
بدأنا نعتمد على قصص ما تبقى من الناس الكبار والمتقدمين في السن ليرووا لنا تاريخ الإيبارشيات، وإذا تيسر نستمد معلومات من كتيبات بسيطة، مثلما وجدنا كتاب عن المسيحية في النوبة، وكتاب آخر عن الخمس مدن الغربية، فقمنا بطباعتهم بأسماء مؤلفيهم الأصليين.
ومن هذا العمل المضني طبعنا كتب عن البحيرة والخمس مدن الغربية، وأسوان والنوبة، سوهاج وأخميم، نقادة وقوس واصدرنا اخيراً كتاب عن إيبارشية أسيوط وجاري العمل على كتاب الإسكندرية.
إليزابيث بولمان
من ضمن الحضور في المؤتمرات الأولى لمؤسسة مارمرقس، كانت سيدة أجنبية اسمها إليزابيث بولمان وهي حاليا استاذة تاريخ في مدينة كليفلاند. بصفتها عضو في مؤسسة مارمرقس تواصلت مع مؤسسة أجنبية تتكلم عن “المواقع المنسية أو المهملة” من أجل الترويج لها أو ترميمها أو تسليط الضوء عليها. وتشاورنا معهم على دير الأنبا شنودة (الدير الأبيض ) ودير الأنبا بيجول (الدير الأحمر) كمواقع تحتاج إلى ترميم وعناية.. نتيجة ذلك استطاعت السيدة بولمان جمع بعض التبرعات وتم ترميم الدير الأحمر ليظهر به روائع كانت مهملة.
تصوير احترافي
بعد كل هذا العمل رجعت لأصل الفكرة التي نبعت من كلمة المهندس الأوكراني الذي قال: محدش يصور حاجة قبل ما يذاكر تاريخها.
وهنا بدأنا فكرة التصوير الاحترافي لأماكن تاريخية قبطية بمصر، بواسطة مصورين محترفين أمريكان. فبدأنا من عند الأنبا بيمن في نقادة وقوس حيث تم تصوير بعض الأديرة. وقامت المؤسسة باصدار ٤٠ كتاب مصور ل٤٠ مكان تاريخي قبطي.
ومن ضمن أعمال التصوير كان الدير الأبيض والدير الأحمر والكنيسة المعلقة بمصر القديمة، وأديرة الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، ومن الأعمال التي تم تصويرها حديثاً، كنيسة مارمرقس بالجيزة، وكذلك الكاتدرائية بكلوت بك.
اللغة القبطية
في جلسات نقاشية كثيرة بيني وبين الدكتور جودت كانت تخرج أفكار نتاج عصف ذهني عن التاريخ القبطي والمسيحي القديم. ومن ثمار هذا الفكر صدر كتاب من ضمن اصدارات مؤسسة مار مرقس عن تاريخ الأدب القبطي ويحتوي جزء كبير جدا عن تاريخ اللغة القبطية، وصدر منه طبعتين.
الموسوعة القبطية
من ضمن الأفكار التي لاقت استحسان الجميع، كانت ترجمة الموسوعة القبطية إلى اللغة العربية حتى تكون في متناول كل الباحثين المصريين والعرب، وتصل إلى الشعوب الناطقة باللغة العربية. هذا المشروع استغرق وقت كبير جداً للترجمة والمراجعة العلمية وإضافة بعض المعلومات إليه، ولم ينتهي حتى يومنا، واستغرق العمل فيه حوالي أربع سنوات ومازال في طور الترجمة والمراجعة بالتوازي.
مولد مارمرقس
وسط هذا العمل المضني، حاولنا نعمل شئ مختلف ومبهج، بما اننا مؤسسة تابعة لاسم مارمرقس، تقدمنا لقداسة البابا تواضروس الثاني بطلب عمل مولد لمارمرقس مثل الموالد الشعبية التي تقام للعذراء وبعض القديسين. وكان اسم الاحتفال “مولد” للقديس مارمرقس غريب على مسمع قداسته، لكن بعد نقاش نجحت في اقناعه لإتمام مولد مارمرقس.. فطلب من أبونا بولس حليم أن يقوم بالتنسيق معنا.
ومن عدة سنوات قمنا بعمل أول مولد للقديس مرقس بالكاترائية المرقسية بالعباسية. بفضل أبونا بولس حليم، كان هذا المولد مدته ٤٨ ساعة، أول يوم تم استدعاء كل كورالات وفرق الشمامسة من أنحاء مصر كلها، ووقفوا في أرض الكاتدرائية يقدمون أعمالهم المختلفة من ترانيم، وتسبحات ومسرحيات. وكنا نمر عليهم مع قداسة البابا ونشاهد ما يقدمونه من ابداع احتفالاً بالقديس مارمرقس مؤسس المسيحية في مصر. أما ثاني يوم فأقيم مؤتمر كبير عن القديس مرقس، وبعدها أصدرت مؤسسة مارمرقس كتاب عن حياة القديس مرقس وخدمته.
مخطوطات قبطية لمكتبة الاسكندرية
قمنا بالتنسيق مع الدكتور سراج الدين مدير مكتبة الاسكندرية سابقاً، حيث كانت مكتبة الاسكندرية عندها رصيد كبير من المخطوطات الاسلامية ويفتقر رصيدها من المخطوطات القبطية. وقتها قام الدكتور سراج بدعوة قداسة البابا شنودة الثالث لزيارة مكتبة الإسكندرية وقمنا باعداد ١٨ قرص مدموج (سي دي) فيها ٢٥٠ ألف مخطوطة قبطية كهدية لمكتبة الاسكندرية.
مؤسسة مارمرقس حالياً
ومرت الأيام وتقدم بنا جميعاً العمر، وأصبح تجمعنا أقل، فبدأنا نقيم عمل المؤسسة وندرس مستقبلها. وأرشدنا الله إلى الدكتور أشرف ناجح ليكون مديراً للمؤسسة وأصبح لدينا مكتب ومقر بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية وفريق عمل من العلماء يعمل معه لاستكمال حلم المؤسسة.
روى الدكتور فوزي اسطفانوس لنا حكاية الحلم الذي تحقق بمنتهى الفخر ، آملاً أن يزيد فريق العمل الذي يؤمن بنفس رسالته ويكمل المسيرة للحفاظ على التراث المسيحي المتوارث من جيل إلى جيل.