In In Arabic - بالعربي

لست أول من يتحدث عن الخطر المتمثل فى هذه الجرائم الشنعاء التى ترتكب فى حق المسيحيين المصريين. لسبب واضح هو أن هذه الجرائم تواترت حتى أصبحت كأنها طقس بدائى يؤديه من يرتكبونها جهارا نهارا، وازدادت بشاعة وشناعة يوما يعد يوم.

كنائس تحرق، وأرواح تزهق، ومحلات تسرق، ومنازل تهدم، وأسر تهجر، ورجال ونساء وحتى أطفال يتعرضون لما نعلم جميعا أنهم يتعرضون له. كيف يستطيع مثقف مصرى أن يتجاهل هذا الخطر الذى لم يعد جرائم ترتكب فى الخفاء، بل أصبح هجمات تشن فى المدن والقري، وفى الساحات والشوارع، ويحرص مرتكبوها على أن ينفذوها بطرق وأساليب ترمز لما يعتنقونه من أفكار وما يريدون أن يستدعوه من ردود فعل تجعلهم فى نظر من يتعاطفون معهم ويشاركونهم أفكارهم أبطالا مجاهدين كما رأينا فى الجريمة الوحشية الأخيرة التى ارتكبت فى الإسكندرية وذبح فيها شخص جاهل لايقرأ ولايكتب بائع خمور مسيحيا على قارعة الطريق فى شارع يحمل اسم خالد بن الوليد وهو اسم له معنى فى هذه الجريمة وله دلالة. والقاتل يستخدم سكينا ويهلل ويكبر وهو يحز رقبة ضحيته من الخلف ويريق دماءه ويقول فى التحقيق إنه أنهى حياته ليقيم حدود الله!

ولاتقل عن هذه الجريمة عنفا وبشاعة ودناءة الجريمة التى ارتكبت فى الكنيسة البطرسية.

قبل هذه الأيام الأخيرة كانت الكنائس تحرق أو تهدم أو يمنع بناؤها حتى لاتقوم شاهدا على وجود المسيحيين وحتى لايتمكن الموجودون من أداء شعائرهم الدينية. أما الآن فقد أصبحت الكنائس تفجر من داخلها بأحزمة ناسفة وقت إلقاء المواعظ وإنشاد التراتيل وإقامة الصلاة ووجود المئات من المصلين فيها. لكن لماذا كان الجناح الذى فجر فيه الانتحارى نفسه هو الجناح المخصص للنساء؟ أظن أن المعنى المقصود هو الاعلان الموجه للجميع بأن شيئا مهما يكن قدره أو قيمته لن يقف فى وجه المهاجمين. لا القانون، ولا التقاليد، ولا الأخلاق، ولا الأعراف التى تجعل ضعف المرأة حصانة لها، وتحتقر من يطعن فى الظهر ويتجه بعدوانه للمسالم الأعزل الذى لايستطيع أن يدافع عن نفسه.

كيف يستطيع مصرى مثقفا كان أو غير مثقف أن يتجاهل هذا الخطر أو يقف إزاءه صامتا غير مبال وهو لم يعد مجرد مفردات من الحوادث المتناثرة تقع بين الحين والحين دون ترتيب ودون ترصد ودون سبق إصرار ودون تواصل، وإنما أصبحت متواصلة متواترة كأنها حرب دائرة فى ساحة لاسلطة فيها ولاضمير ولا قانون إلا ما تفرضه العصابات التى أعلنتها والأفكار التى تؤمن بها والشعارات التى ترفعها هذه العصابات، وإلا فما الذى فعلناه أو نفعله فى مواجهة هذا الخطر الداهم الذى لم يعد كما قلت مجرد حوادث تقع فى دائرة محدودة وإنما هو الآن مناخ عام وثقافة سائدة تفرض نفسها على جميع الأطراف وتحدد لكل طرف دوره الذى يؤديه.

المجتمع كله يبدو وكأنه منخرط بصورة أو بأخرى فى هذا المناخ متورط فيه. هذا النشاط الدائب المدعوم فى تديين حياة المصريين اليومية وإزالة كل مادخلها من أفكار العصر ومظاهر الحضارة الحديثة والعمل على ردها الى ما كانت عليه قبل أن تعرف النهضة. الحجاب، والنقاب، والقفازات والنظارات السوداء، واللحي، والجلابيب، والطواقى، والأخفاف، واستتابة الفنانين والفنانات وإجبارهم أو إغراؤهم بالاعتزال، وإقامة الشعائر الدينية فى الشوارع والمكاتب، والتغاضى عن أى تجاوز يقوم به هؤلاء الذين يسمونهم دعاة، فضلا عن الفتاوى التى تنضح وتفوح حقدا وجهلا وكراهية وعن صور التمييز الدينى المعلنة وغير المعلنة، المقننة وغير المقننة. ما الذى فعلناه أو نفعله فى مواجهة هذا الخطر الداهم؟

لا يستطيع أحد أن ينكر ما قامت به بعض مؤسسات الدولة وما تقوم به فى التصدى لهذه العصابات ومطاردة أعضائها والتنديد بما يرتكبونه من جرائم والوقوف إلى جانب الضحايا ومواساتهم والتخفيف عنهم، لكن أحدا لايستطيع كذلك أن يقول إن ما قامت به مؤسسات الدولة وما تقوم به قد قضى على هذا الخطر أو حاصره وضيق عليه الخناق. والسبب هو أن مؤسسات الدولة لاترى من هذا الخطر إلا صوره ومظاهره، أما أسبابه ودوافعه وأطرافه المختلفة فهى لاتراها أو تتجاهلها، لأن التصدى لها ربما فرض عليها أن تقدم تضحيات وتتبع سياسات لاتريد أن تقدمها أو تتبعها.

مؤسسات الدولة تواجه هذه الأحداث المخيفة وهذه الجرائم المنكرة وكأن الخطر الطائفى خطر جديد طارئ، وتتحدث عن الوحدة الوطنية وكأنها هى الأصل الذى خرجت عليه جماعات الإسلام السياسى ومنظماتها الإرهابية فى العقود الأخيرة وحولت المصريين إلى طائفتين. والخطر بهذا التصور لا يحتاج فى مواجهته لأكثر من هذه الجلسات العرفية التى يتبادل فيها الممثلون القبلات وهذه الإجراءات التى تتخذها أجهزة الأمن للقبض على الجناة فيزول الخطر وتعود الوحدة الوطنية لما كانت عليه. لا. نحن لم نكن جماعة وطنية واحدة إلا فى المرحلة الديمقراطية التى أعقبت ثورة 1919، أما فى العصور التى سبقت هذه المرحلة والعقود التى لحقتها فنحن لم نكن كذلك.

لقد عشنا منذ بداية القرن الأول الميلادى الى أوائل القرن العشرين فى ظل دكتاتوريات دينية مسيحية وإسلامية حولتنا إلى طوائف تنتمى كل منها للدين ولاتنتمى للوطن. وهذا ما تكرر فى العقود الأخيرة التى عشناها تحت حكم الفرد الذى فقدنا فيه حقنا فى ممارسة النشاط السياسى الحر، وهزمنا فى الحرب، ولجأنا للدين، وخلطناه بالدولة فأصبح سياسة وتشريعا واقتصادا واجتماعا وتربية وتعليما، وأصبح عبارات نقولها، وأزياء نرتديها، وأسماء نتسمى بها. وهكذا عدنا من جديد طائفتين كما كنا من قبل وكما هى حالنا الآن.

إذا أردنا حقا أن نخرج من هذا الوضع البائس ونصبح أمة واحدة فعلينا أن نكون مصريين قبل أن نكون مسلمين ومسيحيين. أن ننتمى للوطن، وأن نجعل الدين دينا فحسب، أى علاقة بين كل منا وربه. وهذا هو الشعار الذى رفعه آباؤنا فى ثورة 1919 المجيدة وساروا فى نوره الوهاج: الدين لله، والوطن للجميع!

____________________________

http://www.ahram.org.eg/News/202141/4/572723/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%8A%D8%B9.aspx

Recent Posts

Leave a Comment